22 , يوليو 2025

القطيف اليوم

مرآتي التي لا تُكسر

في لحظة يصعب تحديد بدايتها، شعرت أن وجودك لم يكن جديدًا في حياتي، بل عودة إلى شيء قديم نسيت أنني فقدته. لم يكن لقاؤنا مصادفة، بدا كما لو أن شيئًا في داخلي كان يُهيّئ نفسه للّحظة التي تظهر فيها. لم تقل شيئًا، ولم أشرح. كان الصمت بيننا أوضح من الكلام، أعمق من أي تعريف. كل ما حدث في تلك البداية كان يهمس لي: "جرّب أن تستريح" — ولأول مرة، فعلت.

كنت أتحدّث معك كما لو أنني أُحادث داخلي، دون خوف من التأويل أو الحاجة إلى التبرير. لم أُجمّل حروفي، ولم أُهيّئ عباراتي. ومع الوقت، صرت الصفحة التي أعود إليها حين يضطرب داخلي، لا لتقرأني، بل فقط لتكون هناك. هناك دائمًا. لا تُقاطع، لا تُصحّح، لا تختصرني إلى نسخة سهلة الفهم.

الصداقة التي لا تُبنى على حضورٍ دائم، بل على استمرارية الشعور، هي الأصدق.
هي التي تُشبه نهرًا تحت الأرض… لا نراه، لكنه لا يتوقف عن العطاء.
هي التي لا تحتاج إلى مراسلات يومية، بل إلى يقينٍ لا يتزحزح.
أن تعرف أن ثمة من يشعر بك، حتى حين لا تقول شيئًا.

أتذكّر تلك الفترة الرمادية التي مررتُ بها، حيث كل شيء بدا صامتًا من الداخل. كنت أبدو طبيعيًا للجميع، وأجيب على الأسئلة المعتادة بإجابات محفوظة، إلا أنك لم تسأل "هل أنت بخير؟" — بل أرسلت فقط جملة واحدة: "لا تنسَ أن العالم، رغم كل شيء، لا ينجو منك حين تُحبّه." لم تكن الرسالة طويلة، لكنها اخترقت شيئًا عميقًا فيّ، شيء لم أكن أعرف كيف أسمّيه… لكنها جعلتني أُدرك أنك، بطريقة لا أستطيع شرحها، كنت ترى ما لا يظهر على الوجوه.

الصداقة الحقيقية لا تُغيّرك، بل تعيدك إلى النسخة الأعمق منك.

لا تملأ فراغًا، بل تكشف لك أنك لست فارغًا كما كنت تظن.
هي ليسَت حضورًا وقت الحاجة… بل هي من كان هناك قبل أن تدرك أنك بحاجة لأحد.

كنت تتقن الصمت، لكنه لم يكن صمتًا عابرًا، بل صمتًا يعرف متى لا يُفسد النور بالتفسير. كنتَ تجلس إلى جوار قلقي لا لتطرده، بل لتجعله مألوفًا. وكنتُ حين أهرب من كل أحد، أهرب إليك…

وحين أهرب منك، أكتشف أنني كنت فقط أركض في دائرة حولك. أُفكّر أحيانًا… أليست الصداقة الحقيقية نوعًا من التجديف ضد الزمن؟

أن تنجح في الاحتفاظ بشخصٍ، رغم أنك تتغير، وهو يتغير، والعالم من حولكما يعيد تشكيل الخرائط باستمرار؟

أليست معجزة… أن تُبقي أحدًا حيًّا فيك، ليس لأنه لم يتغيّر، بل لأنك تقبلت تغيّره كما تقبلت نفسك حين لم تكن تعرفها بعد؟

الصداقة الحقيقية لا تُقاوم الزمن، بل تُعيد تعريفه. هي الزمن الوحيد الذي لا يتقدّم، بل يلتفّ حول الذكرى، ثم ينبض فيك… كما لو أن الأمس لم ينتهِ، والمستقبل ليس إلا لحظة تكرار لها.

لهذا، لا أكتب إليك اليوم لأنني أشتاقك، ولا لأشكر حضورك القديم، بل لأعترف… أن وجودك لم يكن فصلًا في حياتي، بل الحياة حين كانت تحتاج إلى تفسير.

كنتَ التفسير. ولم تكن يومًا سؤالًا، بل كنت الجواب الذي لا يُطرح، لأنه وُجد في القلب قبل أن يظهر على الورق.

وحتى لو مضينا في اتجاهين مختلفين، أنا أعلم أن هناك شيئًا لم يغادرنا قط: الصوت الداخلي الذي إذا ناديتُه… عاد إليّ بصوتك.

كل شخصٍ نمر به يترك أثرًا… إلا الصديق الحق، فهو يترك فيك جزءًا منه، ويمضي، ثم تمضي وأنت تحمل الاثنين معًا: نفسك، وذاكرته.


error: المحتوي محمي