
عن الزهايمر في الذاكرة.. والرحمة في القلوب
ربما لا يسرق الزمانُ شيئًا من الإنسان أكثر جرأةً من ذاكرته. فحين يتسلّل الزهايمر بهدوء إلى عقل أحدهم، لا يطرق الباب، لا يستأذن، لا يراعي هيبة شيبة ولا حرارة قلب. بل يدخل كغريبٍ يُعيد ترتيب البيت على هواه، يُطفئ الأسماء، ويبعثر الوجوه، ويغلق نوافذ الحكايات التي كانت تُنعش الروح كل مساء.
لكن المأساة الحقيقية لا تكمن في النسيان ذاته، بل في ارتباكنا نحن حين نواجهه. في نظراتنا المذعورة، في صمتنا غير المبرر، في تلك الضحكة المرتبكة التي لا تعرف: أتبكي على ذبول الورد، أم تخجل من أنك لم تروه في وقته؟
رجلٌ كان يومًا يقود بيتًا، يسابق الريح في رزقه، يحمل على ظهره عائلة، ويتذكّر أسماء أولاده بترتيب أعمارهم… يفقد فجأةً قدرته على تذكّر اسمه! هنا، لا يُختبَر “هو”، بل نُختبَر نحن.
لا أحد يُعدّ لهذا الغياب…
الزهايمر لا يطرق الباب. يأتيك فجأةً، ويأخذ أقرب الأشياء إلى روحك: الذكرى. والذكرى ليست أوراقًا في درج، بل هي الجسر الذي نعبر به نحو الحب، نحو المعنى، نحو الإنسان الذي كنّاه والذي عرفناه.
عندما ينسى الرجل اسم زوجته التي رافقته خمسين عامًا، فالمأساة ليست أنه نسي، بل أن نعامل هذا النسيان وكأنه انقطاع قيمته. أن نناديه وكأنه “شيء” فقد صلاحيته، أن نخفض صوتنا وكأننا نُحدّث غريبًا لا جدوى منه!
بل ويحدث أحيانًا — ويا للأسى — أن يُوصم المريض بالحرج، ويُخفى عن الضيوف، ويُختصر في عبارات من نوع: “ما له خلق اليوم”…
لا، هو ليس بلا خُلق، هو فقط بلا ذاكرة. لكن قلبه؟ لا يزال هناك، فقط ينتظر أحدًا يراه، لا أحدًا يُفجعه.
من يُدير ظهره لوردة فقدت رائحتها… نسي أنها لا تزال وردة.
تخيّل لو أن أحدهم فقد قدرته على المشي، فهل نلومه لأنه لم يركض؟ فكيف نلوم من فقد القدرة على التذكّر؟
قال الله تعالى: ﴿وَقَضىٰ رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا﴾ [الإسراء: 23].
تأمّل هذا:
لم يعلّق الله الإحسان بقدرة الوالدين على العطاء، ولا بذاكرتهم، ولا بشكرهم لك…
بل علّقه بكونهم والدين فقط.
فهل إذا نسي الأبُ أنه أب… ننسى نحن أننا أبناء؟
بين الخوف والفهم… مسافة اسمها الرحمة
أعرف رجلاً كان في مجلسٍ عائلي، جلس والده المصاب بالزهايمر بجواره، ثم سأله بنبرة غريبة: “أنت ولد من؟" ابتسم الابن، ضحك ضحكة ناعمة، ثم قال: “أنا ولدك… وأنت رفيق عمري”.
فانفرج وجه الأب، لم يفهم… لكنه شعر. وما شعر به الأب في تلك اللحظة، كان أهم من أن يتذكّر اسم ابنه. شعر بالأمان… بالحنان… بالانتماء.
وهذا، لعمري، يكفينا جميعًا إن كنا نؤمن أن القلب قبل العقل.
المجتمع؟ لا يزال بحاجة إلى شرح
دعونا نواجه الواقع:
بعض الناس يتعاملون مع مرضى الزهايمر وكأنهم عبءٌ ثقيل، أو “مشكلة عائلية”، أو حتى “عار”! بينما في الحقيقة، هؤلاء المرضى أبطال… يصارعون النسيان بصمت، في وقتٍ لا يملكون حتى القدرة على الشكوى.
بل ربما يُضحكوننا أحيانًا بجمل متقاطعة بلا معنى، فنضحك عليهم، لا معهم! لكننا لا نعرف أن تلك الجمل… قد تكون محاولات صادقة لترجمة عالم داخلي لا يُفهم إلا بالقلب.
ضحكة… من حيث لا ندري
سُئل أحد كبار السن المصابين بالزهايمر: “تحب أمك ولا زوجتك أكثر؟” أجاب بثقة: “زوجتي… بس نسيت ليش!”
ضحك الجميع… لكنه لم يضحك. ربما نسي السبب، لكنّه لم ينسَ الحب. لأن الحب ليس في الذاكرة… الحب في الصدور، والصدور لا تُصاب بالزهايمر.
وها أنا أكتب…
وربما تهمس هذه الكلمات في قلوبٍ كانت تنتظرها، لا لتُعلّق على أحد، ولا لتُشير بأصابعها، بل لتضع يدها على قلبٍ أنهكه الحنين، وتربّت على كتف من عاش مرارة النسيان فيمن يحبّ.
وقد كانت هذه المقالة، على امتداد نبضها، من النصوص التي كتبتها منذ أكثر من عامين، لكنها بقيت في الدرج تنتظر لحظة النور. حتى قرأت مؤخرًا مقالة الأستاذ هلال الوحيد الموسومة بـ”قصة عبد الله”، المنشورة عبر القطيف اليوم، فأحيت في داخلي ذاكرة المقال، وأطلقت فيه دفء النشر من جديد. ليست هذه الكلمات ردًا ولا تلميحًا، ولا تشير إلى أحدٍ بعينه — بل عن كل أبٍ وأمٍ وأخٍ وزوجٍ وأختٍ وأحبّةٍ سكنهم الزهايمر وسكنّاهم في القلب.
لقد شجّعني هذا التزامن النبيل بين المقالتين على إخراج ما كتبته إلى العلن، ومزامنته بفيض حبّ مع ما كُتب هناك، إذ إن الغاية واحدة: أن نعيد النظر، وننصت بأرواحنا لمن لم يعودوا يملكون صوتهم الكامل… لكنهم لا يزالون يملكون قلوبهم، ومكانهم في قلوبنا.
ختامًا…
الزهايمر لا ينزع القيمة من الناس… نحن مَن ننزعها حين نعاملهم وكأنهم انتهوا.
من فقد ذاكرته، لم يفقد إنسانيته. من نسي أسماءنا، لم ينسَ أنه كان يُعطينا عمره يومًا بيوم.
ربما هو لا يعرف من نحن…
لكن المهم، أننا نعرف من هو.
⸻
بفيضٍ من محبة، واعتدالٍ في الفكر، ورحمةٍ تسع الذاكرة والذاهل عنها.
إشارات ومزامنة:
• مقال “قصة عبد الله” للأستاذ هلال الوحيد، عبر القطيف اليوم.
قصة عبد الله!
هلال الوحيد
https://alqhat.com/q/511080