
بعد أيامٍ قليلة جدًّا نبدأ عامًا هجريًا جديدًا 1447 هجرية. هل فكرتم في مزايا سنوات ما بعد الستين؟ عمر الشباب قصير جدًّا. أنا وزملائي شيعناه ودفناه ودخلنا في عمر السكون الملون؛ ساعة راحة وساعة تعب.
كان عندنا في جزيرة تاروت في الأيام الخوالي عدة مقاهٍ يجلس فيها رجال من مختلف الأعمار، شبان وشيب. أتذكر، وإن نسيتُ فلا ملامة، لأن ذلك كان زمنًا بعيدًا، أصوات الراديو من بعض المقاهي تبث أغاني بصوت مغنٍ من العراق معروف قديمًا اسمه "ناظم الغزالي". أظنّ أن رفقاء العمر يتذكرون ذلك الاسم!
ليس دعوة للاستماع للأغاني، إنما أغاني الأمس كانت شعرًا ذا قيمة، أما أغاني اليوم فهي ليست سوى مظاهر وطقطقة. استوقفتني منذ ذلك الزمان القديم ما غناه ناظم الغزالي من شعر عمر الخيام:
لَمْ يَبْقَ مِنِّي فِي الدُّنْيَا سِوَى رَمَقٍ .. وَلَيْسَ فِي الْيَدِ مِنْ صَحْبِي سِوَى الْكَدَرِ
لَمْ يَبْقَ لِي مِنْ طِلاَ أَمْسِ سِوَى قَدَحٍ .. وَلَسْتُ أَعْلَمُ مَا الْبَاقِي مِنَ الْعُمُرِ
الثانية:
أَتَدْرِي لِمَاذَا يُصْبِحُ الدِّيْكُ صَائِحًا .. يُرَدِّدُ لَحْنَ النَّوْحِ فِي غُرَّةِ الْفَجْرِ
يُنَادِي لَقَدْ مَرَّتْ مِنَ الْعُمْرِ لَيْلَةٌ .. وَهَا أَنْتَ لَمْ تَشْعُرْ بِذَاكَ وَلَمْ تَدْرِي
أما الثالثة وهي محلّ الشاهد من شعر المستنجد بالله العباسي:
عيّرتني بالشيب وهو وقارُ .. ليتها عيَّرت بما هو عارُ
إن تكن شابت الذوائبُ مني .. فالليالي تزيِّنها الأقمارُ
كثيرًا ما نتكلم عن التقدم في العمر لأننا لا نستطيع الإنكار أن قوتنا وصحتنا سماء صافية حتى إذا وصلنا ستين سنة تلونت السماءُ وظهرت فيها السحب. لكن إذا كان من سنة الحياة الثابتة أن يصبح لون الرأس رمادًا أبيض، شئنا أم أبينا، فلماذا الخوف والبكاء والهلع؟!
لا يهمّ إذا ما اختفى السواد الفاحم وصار شعلةَ نار تسري بسرعة، تلتهم كل ما يحيط بها من شعر أسود وجاء بدلًا من ذلك كمال العقل والهيبة. كل شعرة تتلون تقول: استيقظ، أنت أكبر عمرًا، أثقل عقلًا. أنت أجل قدرًا ومكانة مكانة بين أهلك وأصدقائك والناس وعند الله!
أخي الكريم - أختي الكريمة: نحن في نهاية عام هجري. كلما مرّ عامٌ أصبحت عملةً نادرة، جنديًّا ذا مرتبة عالية في الحياة، تدير معارك الحياة بحنكة ودراية وانتصار. لك مكانة أعلى في أهلك ومجتمعك، والأهم أن قيمتك تعلو شأنًا عند الله سبحانه وتعالى.
لا عليك ما يقول الناس في الشيب. هو زهرٌ يلون أطرافَ حديقة العمر. مرحبًا به!
وَفي الجِسمِ نَفسٌ لا تَشيبُ بِشَيبِهِ .. وَلَو أَنَّ ما في الوَجهِ مِنهُ حِرابُ
لَها ظُفُرٌ إِن كَلَّ ظُفرٌ أُعِدُّهُ .. وَنابٌ إِذا لَم يَبقَ في الفَمِ نابُ
يُغَيِّرُ مِنّي الدَهرُ ما شاءَ غَيرَها .. وَأَبلُغُ أَقصى العُمرِ وَهِيَ كَعابُ
وَإِنّي لَنَجمٌ تَهتَدي بِيَ صُحبَتي .. إِذا حالَ مِن دونِ النُجومِ سَحابُ
المتنبي.
سنةٌ سعيدة وهنيئة علينا وعليكم قولوا: آمين يا رب العالمين! تذكروا أن الشعلة البيضاء عزّ وشرف وجمال وهيبة.