خالفت بنات جنسها فيما تهوى، واتخذت لنفسها صديقات يصغرنها كثيرًا في الحجم، تختلف معها في الصفات والطباع، وتشترك معها في شيء واحد، كلتاهما تهويان “الحلو الأصفر”.
لم تكن كأي حواء تتسمر في مكانها حين تصادفها حشرة ما، بل صافحت بكفيها الصغيرتين واحدة من أكثر الحشرات خطورة إن لم تحسن التعامل معها.. امتدت علاقتها بها لأكثر من 15 عامًا بعد أن وجدت والدها وهي في الثالثة من عمرها مربيًا للنحل، وقبل ثلاثة أعوام قررت الولوج أكثر في ذلك العالم الذي يرعب الكثيرات من بنات حواء، ويومًا بعد يوم توطدت الصداقة لتكون نحالة مرخصة، رغم أن سنوات عمرها لم تطرق باب الـ20 حتى اليوم.
صديقة النحل
فاطمة صالح مهدي الميلاد، فتاة لم تتجاوز الـ 18 من عمرها، إلا أنها تجاوزت اهتمامات بنات جنسها، وخاضت مجالًا قلّ أن نسمع عن سيدة تفكر في اختياره، فكيف بشابة في مقتبل العمر!!
عقدت فاطمة صداقتها مع حشرة صغيرة، نفعها لا يزيد كثيرًا عن خطرها ما لم تحسن التعامل معها، فهي تقضي ساعات من يومها بين “أوب من النحل”، تراقب حياتها، وتعتني بها وبخليتها، حتى تنتهي لإنتاج عسل مختلف الأنواع، والكميات، لتصنف بعدها في مكتب وزارة البيئة والمياه والزراعة بمحافظة القطيف کنحالة، شأنها في ذلك شأن عدد من الرجال الذين لم تخالفهم في جنسها وحسب، إنما في صغر عمرها.
بالوراثة
ابنة “التوبي”، لم يأتِ اهتمامها بالنحل صدفةً، إنما وراثة أنجبها عمل والدها في خلايا النحل وإنتاج العسل، لتكون بذلك “لبؤة” ابنة “أسد” بحق، اكتسبت منه أكبر اهتماماته وجرأته في معاشرة النحل وعدم خوفه.
“الميلاد”، الابنة الخامسة بين إخوتها، فتحت عيني انتباهها ووالدها قد بدأ اهتمامه بتربية النحل وإنتاج العسل، واهتمامه ذاك نقله لأبنائه، خصوصًا الأخت الكبرى، التي بدا واضحًا ميولها لعمل والدها فأخذت تعتني معه بالنحل، إلا أن ميولها بدأت تغيب شيئًا فشيئًا بعد أن تزوجت، لتترك المهنة لأختها فاطمة وهي في الـ15 من عمرها، أي قبل 3 سنوات من الآن.
بداية العلاقة
وعن بداية علاقتها بالنحل، قالت النحّالة الصغيرة لـ«القطيف اليوم»: “في البداية كنت أشاهد والدي وهو يعمل في مجال تربية النحل، كنت أراه مستمتعًا جدًا بهذه المهنة، وكانت تتبادر إلى ذهني بعض الأسئلة حول مجال تربية النحل فأطرحها عليه؛ ويجيبني بكل رحابة وسعة صدر”.
وتضيف: “في يوم من الأيام تناقشت معه حول تجربة الاعتناء بمفردي بخلية كاملة، فوافق على ذلك وقمت بالاعتناء بها، وقتها كنت عند حدوث أي مشكلة أرجع له ليصحح لي الأخطاء التي وقعت بها، ويومًا بعد يوم استهوتني هذه المهنة كثيرًا، فبدأت بزيادة أعداد الخلايا والاعتناء بها، والاطلاع أكثر وأكثر مع والدي على هذه المهنة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن”.
ليست وحيدة
توضح فاطمة أنها ليست الوحيدة المستفيدة في العائلة من إثراء والدها بالمعلومات، فحتى عماتها وخالاتها وأبناؤهن مستفيدون من معلوماته، مشيرةً إلى أنه دائمًا ما يقوم بإطلاعهم على الخلايا ويريهم الملكات والعاملات وطريقة التعامل معها.
علاقة مرخصة
بدأت “الميلاد” في اقتطاع وقت من ساعات يومها تخصصه لصديقاتها النحلات، بعد انتهائها من فروضها المدرسية وفي حين فراغها، لتمضي معها وقتًا يقربها منها شيئًا فشيئًا، ذلك القرب الذي جعلها تفكر بأن يكون عملها معها مرخصًا وليس مجرد هواية تمارسها كأي هواية أخرى.
استخرجت فاطمة لنفسها ترخيصًا من مكتب وزارة البيئة والمياه والزراعة بمحافظة القطيف، بتشجيع من والديها وعائلتها، قبل 5 أشهر وتحديدًا في تاريخ 14 مارس 2021 م، لتصبح نحالة حقيقية، وليست مجرد هاوية.
بين كرسي الدراسة وخلية النحل
بدأت فاطمة علاقتها الفعلية مع النحل في أيام دراستها الثانوية، بدءًا من الصف الأول ثانوي، لذلك لم يكن سهلًا على فتاة مهتمة بدراستها ومحبة لهوايتها أن توفق بين الاثنين، إلا أنها حاولت جاهدةً تنظيم وقتها، مقدمةً مذاكرتها وفروضها المدرسية على مصاحبة نحلاتها، لتتجه بعد للمنحل القريب من مسكنها وتمضي من وقتها ما تشاء لإشباع هوايتها.
مهام النحالة الصغيرة
ترتدي فاطمة بدلة النحالين، بقبعتها الضخمة وغطائها التولي، وقفازاتها، ثم تبدأ في تنفيذ مهامها كنحالة.
تتحدث عن تلك المهام بقولها: “تنقسم مهامي كنحالة إلى قسمين؛ المتابعة المستمرة لما بداخل الخلية، والمتابعة لما في خارجها، وعن متابعتي لداخلها فإنه يتوجب عليّ أن أحاول حماية النحلة من الأمراض مثل الفاروا المميتة التي تجلس على جسمها، وكذلك وفراشة النحل وبعض الأنزيميا، وتعفن الحضنة، وبعض الأمراض الأخرى، كما أرى احتياج الخلية من حذف أو إضافة إطار على حسب قوة النحل واحتياج الخلية”.
وتضيف: “أما عن خارجها فلا بد أن أحمي الخلية من حرارة الشمس ومن الهواء القوي سواء كان باردًا أو حارًا، وأنتبه ألا يقع على الصندوق غصن شجرة، أو أن تتسلقه واحدة من النباتات التي تنبت من الأرض حتى تصل له ويكون بمثابة سلم للحشرات”.
شراب مختلف ألوانه
أنتجت “الميلاد” هذا العام 60 كيلو من العسل، تختلف أنواعه وفوائده، ورغم صغر سنها إلا أن خوض التجربة جعلها تفرق بين تلك الأنواع بمهارة المحترفين.
وعن أنواع العسل التي تنتجها من مزرعتهم الخاصة، ذكرت أن العسل المستخلص لديهم أنواعه عديدة، وهو ينتج من زهور متنوعة، تبين ذلك: “لدينا من الحمضيات الليمون والإترنج – الأترج، الترنج، كما أننا ننتج عسل السدر، والبرسيم وهو النبات المزهر طوال العام، وأيضًا الكنار واللوز، وعمومًا هذا هو المرعى المتوفر عندي”.
وتضيف: “لاحظت أن نحلاتي تجمع حبوب اللقاح بشكل ممتاز من الأزهار التي زرعتها البلدية في الشوارع العامة، كما أن النحلة حين لا تجد زهورًا فإنها تأكل من بعض الثمار مثل الرطب أو التين”.
وتتابع: “أما عن التفريق بين أنواع العسل فهو أمر يجيده أي مهتم به، فالعسل تختلف ألوانه ورائحته وطعمه باختلاف المرعى، فإذا عُرف موقع النحل من وفرة المرعى المتواجد فيه نستطيع تحديد نوع العسل، مثلًا السدر، والبرسيم، والمانجروف، أو الزهور المتنوعة”.
نحالة على شواطئ المانجروف
تخوض فاطمة حاليًا تجربة العمل كنحالة على شواطئ المانجروف، شأنها في ذلك شأن عدد من نحالي القطيف، بعد أن أعلن مكتب وزارة البيئة والمياه والزراعة بالقطيف عن إنشاء مشروع منحل عسل على شواطئ غابات المانجروف.
وعن تلك التجربة تقول: “بداية جميلة وجهود طيبة تشكر عليها وزارة الزراعة لإتاحة هذه الفرصة”، مشيرةً إلى أن العمل في مزرعتهم الخاصة تعتبر أسهل بالنسبة لها كفتاة.
لسعات بردتها “لطافة الملكة”
لم تتعرض الميلاد لقصص ومواقف مثيرة مع النحل خلال عملها معها، إلا أن تاريخها معها يحفل بالكثير من اللسعات، تلك اللسعات التي كانت توقفها عن مواصلة عملها في بداية العمل مع النحل، ثم اعتادت عليها بعد مرور وقت، حتى أصبحت تعالجها بقطرات من الخل ثم تكمل عملها.
أما أجمل المواقف التي صادفتها مع صديقاتها النحلات، فكانت عندما وضع والدها الملكة على يدها، تصف ذلك الشعور: “منذ صغري وأنا أرافق والدي وغالبًا كنت أتعرض للسع النحل، ثم أخبرني والدي أنه يمكنني أن أضع الملكة على يدي، إلا أن الخوف تملكني، يومها هدأني والدي وأكد لي أن الملكة لا تلسع، وحين قمت بالتجربة أحسست بشعور جميل غمرني، شعور أتمنى أن يجربه الجميع”.
بعيدًا عن الخلية
اهتمامات فاطمة كـ “شابة”، لم تتبدل بعد مرافقتها للنحل، فهي ما زالت تهوى الخياطة، كما أنها تمارس هواياتها في تعلم الأشياء الجديدة، وخوض المغامرة في تجربة ما هو مختلف.
بين دوائين
تخرجت فاطمة في الثانوية العامة هذا العام -1442 هـ – بمرتبة الشرف الثانية، وهي تحلم أن تكون فردًا من أبطال الصحة لتخدم بذلك وطنها ومجتمعها.
وعن سؤالنا: “بعد التخرج الجامعي، لو قدر لكِ أن تقعي بين اختيارين؛ إما أن تكوني نحالة أو طبيبة، ما هي الكفة الراجحة؟”، أجابت: “أسأل الله أن يوفقني بالوصول إلى تحقيق طموحي كطبيبة، وفي نفس الوقت ممارسة هوايتي كنحالة، قال تعالى {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ}، في كلتا الحالتين سيكون ما أمارسه هو من الطب”.
فاطمة الميلاد أثناء عملها مع النحل