تنبهنا تجارب الشعوب والمجتمعات الإنسانية، أن العنف والتشدد الديني والإنساني من أخطر العيوب والآفات التي تصيب بعض المجتمعات.. فتحول هذه العيوب المجتمعات إلى الإصابة بأزمات متلاحقة، تزيد من إخراج هذه المجتمعات من حيّز التأثير الإيجابي في الحياة والحضارة الحديثة.
فالتشدد يراكم من السلبيات القيمية والسلوكية، وإن التشدد ليس من علامات القوة الذاتية والاجتماعية.
لذلك ثمة حقيقة راسخة تطلقها كل التجارب الإنسانية التي مرت بطور التشدد والغُلو الديني والاجتماعي.. حيث إن هذا الغلو يدخل عموم المجتمع في مواجهة داخلية مع نفسه.. فالمتشدد يحول معركته الأيديولوجية والسلوكية إلى معاداة أبناء مجتمعه، ويحارب كل الصور الإيجابية في بيئته الاجتماعية والإنسانية.
لذلك فإن محاربة التشدد والتطرف من الأولويات، حتى يتخلص المجتمع المصاب بداء التشدد والتطرف من هذا الاعوجاج القيمي والسلوكي.
لهذا فإن تجارب الحياة السياسية والسلوكية، تثبت أن الغلو والتشدد من أهم العيوب التي تصاحب بعض المجتمعات التي تتمسك برؤيتها الأيديولوجية وعقيدتها الذاتية.. وعليه فإن تمسك أي مجتمع بعقيدته يزيده قوة وقدرة على تذليل كل عقبات حياته.. ولكن حينما يصاب هذا المجتمع بالتشدد والغُلو الديني، فإن هذا التشدد يصبح من أهم العيوب التي تهدد استقرار المجتمع.
لهذا ثمة ضرورة وطنية واجتماعية لتعزيز خطاب وحقائق الاعتدال، بوصفه هو الذي يخرج هذا المجتمع من أتون التدهور الأخلاقي والسلوكي.
والسؤال الجوهري الذي يتبادر في هذا السياق: كيف نعزز حقائق وخطاب الاعتدال للخروج من مأزق التطرّف والتشدد الديني والسلوكي؟
نجيب على هذا السؤال من خلال النقاط التالية:
حماية حق الاختلاف:
لا ريب أن بداية الاعوجاج تتبلور حينما لا يتعامل الإنسان مع الاختلاف الإنساني بطريقة صحيحة وسوية.. لأن الاختلاف الإنساني حالة طبيعية وقد يكون من لوازم الحياة الإنسانية.. ورفض هذا الاختلاف هو الذي يقود هذا الإنسان المصاب بالغلو والتشدد إلى العمل على كسر الاختلاف والضغط بكل الوسائل التي لديه لتذويب دائرة الاختلاف الإنساني، والعمل على أن يكون كل المجتمع على رأي واحد وقناعة فكرية وثقافية واحدة.
لهذا فإن ترذيل الاختلاف الإنساني، هو الذي يقود إلى التعامل معه بوصفه من العيوب التي ينبغي أن تعالج.
لهذا فإن التعامل القاسي مع الاختلافات الإنسانية من الظواهر السيئة، التي تؤسس عبر متوالياتها المتنوعة إلى حالة التشدد الديني والاجتماعي.. وهذا السلوك لن يتم التخلي عنه إلا بحماية حق الاختلاف، وهو من الحقوق الأصيلة في حياة الإنسان.
التعامل الإيجابي مع حقيقة التعددية الاجتماعية:
من الطبيعي القول: إن كل المجتمعات متنوعة ومتعددة، والوقوف ضد هذه الحقيقة يؤدي إلى مشاكل وأزمات عديدة في المجتمع.. ودائماً الوقوف ضد حقائق التعددية، هو يؤدي إلى شيوع ظاهرة الغلو والتشدد.
لذلك فإن محاربة الغلو والتشدد الديني، وتعزيز حقائق الاعتدال، لن يكون إلا باحترام كل التعدديات الموجودة في المجتمع.. فلا اعتدال إلا بالقبول بالتعددية. ومن يبحث عن الاعتدال مع محاربة التعددية فإنه سيصاب بالمزيد من الغلو والتشدد.
لذلك من الضروري تربية أبناء المجتمع عبر التعليم ووسائط الثقافة المتنوعة على القبول بحقيقة التعددية والتعامل معه بدون خصومة أو عداوة، حتى يتعزز خطاب الاعتدال في المجتمع.
فالاعتدال هو نتاج طبيعي لظاهرة القبول بالتعددية الموجودة في المجتمع.
لذلك فإنه لا يمكن تعزيز حقائق الاعتدال، في ظل محاربة حقائق التعددية.. فلا اعتدال بدون القبول بالتعددية.. وإنما المجتمعات المعتدلة، هي تلك المجتمعات التي تزخر بالتنوع والتعددية وتحميها بكل الوسائل القانونية.
أما محاربة التعددية، فإنها تفضي إلى شيوع فكر التطرّف والغُلو.. لذلك فإن التعامل الإيجابي مع حقائق التعددية في المجتمع هو الذي يؤدي إلى تعزيز خطاب وحقائق الاعتدال في المجتمع والوطن.
صيانة الانفتاح والتواصل في الدائرة الاجتماعية:
على المستوى العملي والتطبيقي هناك تلازم بين ظاهرة الانغلاق والتشدد الديني والاجتماعي.. بمعنى أن من يعيش حالة الانغلاق فإن انغلاقه هو في أحد أسبابه وليد حالة التشدد والغُلو.. والتشدد وبيئته الاجتماعية هو الذي يصنع المناخ الداعم لخيار الانطواء والانغلاق.
وعليه فإن الانفتاح والتواصل مع الآخرين، من الصفات الأساسية التي تؤدي إلى الاعتدال.. فلا اعتدال إلا بالتواصل والانفتاح.. لهذا فإن تشجيع خيار الانفتاح هو الوجه الآخر للاعتدال.. لأن الانطواء كقيمة وسلوك على الضد من خيار الاعتدال. لذلك فإن المطلوب دائماً هو كسر حالة الانطواء ودفع الأمور باتجاه الانفتاح من أجل تعزيز حقائق الاعتدال في الوسط الاجتماعي.
الرياض