دخلتُ الفصل ذلك الصباح بشعور مختلف؛ كيف لي ان اجعل الدرس شيقا وانا انوي الحديث عن شيء بديهي؟ أوراقي تحتوي على رسومات توضيحية لتموجات خفيفة، سهمًا يرمز للاتجاه، خطًا منحنيا يدل على ظاهرة الانكسار، وقليلا من المعادلات المنمقة.
كانت المقاعد مريحة، هذا طالب يهيئ كراسه، ذلك يكمل بقية حديثه مع زميله, ريثما انتظر اكتمال العدد, الى ان تتكامل الطريقة المثلى لطرح الموضوع في ذهني. خليط من فضولٍ وصبرٍ يكاد ان ينفد.
وضعتُ الحقيبة على المنضدة، امسكت باليمنى قلما, بينما اليسرى قابضة على قنينة الماء: «ابنائي، اليوم سوف نفتح نافذة على النور»
ارتفع رأس شاب في المقدمة، آخر كان يقلب قلمه بين أصابعه بسرعة، توقف فجأة. شعرتُ بعيونهم تلتقط جملتي كما يلتقط الحسّاس الكهربائي فوتون الصباح فيغلق الدائرة.
بدأتُ أرسم خطًا مستقيمًا على السبورة.
هذا يا شباب… فوتون. بالرغم من انه عديم الكتلة، فهو يملأ الوجود حركة وطاقة. لا يتوقف، لا يستريح. يسافر بسرعة الكون القصوى، لا عجلة في الامر, فهذا هو قدره.
ثم تلوت الآية: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره ...الاية), ادير بطرفي, منصتون كأن على رؤوسهم الطير.
بعد الآية، رأيت طالبًا يميل بجذعه للأمام, وآخر يرفع حاجبه.
رفع أحمد، صاحب النظرة العميقة، يده بتردد:
أستاذ… إذا كان زي ما تقول ما له كتلة، كيف ينحني حول النجم؟ كيف تجذبه الجاذبية؟
ابتسمتُ, حقا, ذلك النوع من الأسئلة يطربني. قلت: «يا أحمد، كما ان الجاذبية تؤثر في الأجسام … كذلك فان سلطتها متعدية للطاقة. والفوتون أساسا هو طاقة صافية، يفتقر لكتلة السكون، الا انه ليس عديم الحضور. كأنك تقول عن الموعظة: لا وزن لها… فهل يعني هذا أنها لن تغيّر فيك شيئا؟»
تحركت همهمة خفيفة، ترى الذقون تميل للأسفل، هل هو تبصيم صامت بالموافقة؟
قلت وأنا أمشي بين المقاعد, شخصيا أحب السير بينهم لأشعر بحرارة الافكار, ولألحظ العيون من مسافة قريبة:
تخيّلوا أن الفوتون ضيف لا يستطيع احدكم إيقافه. لو حاولتم الإمساك به، لاختفى كأنه يقول: أنا هنا… انا لست هناك!
رفع سالم يده بسرعة، وقلمه يكاد يسقط من قبضته:
كل الصف صار ساكنًا, صوت التكييف صار مسموعًا. قلت بصوت أخفض:
﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾
الضياء (ذاتي) أعمق من النور، لأنه يحمل حرارة … أما النور (اكتسابي) فهو ناتج الضياء. الفوتون (جزيء النور) لا يهدي مباشرة، لكنه يشير ويدل على الضياء الذي كان مصدرا له.
رأيت طالبًا في الخلف يغلق عينيه لحظة، كأنه يلتقط المعنى بباطن عقله. آخر يحرّك شفتيه خفيفًا، يعيد الآية بصمت. تلك اللحظات، يا صاحبي، لا تُشترى بالمال.
وقفتُ عند السبورة، رسمتُ موجة ثم اعقبتها برسم نقطة.
الفوتون يتشكل ولا يستقر على صورة واحدة, فمرة موجة، ومرة جسيم. إنه يشبه ما نقوله عن الإنسان: جسم… ومعنى. وإذا ما نظرت له بعين واحدة فقط, فتيقن أنك قد أضعت نصفه الاخر.
ابتسم رامي وقال:
يعني أستاذ، الفوتون مراهق؟ مرة كذا ومرة كذا؟
ضحكتُ معهم, فالفكاهة في العلم كالملح في الطعام، تعطي للدرس نكهته. قلت: لا يا رامي … الفوتون ليس مترددًا، نحن القاصرون, قد نراه بعيون ناقصة. الأشياء ليست دائما كما نلحظها، لكل شيء ظاهر وباطن, وجود وماهية, حقيقة وعمق. العين تراقب الضوء، وهو لا يعبأ بها.
عندها وضعتُ القلم، تحدثتُ بنبرة أعمق، كأنه درس فيزياء عملي:
«الضوء لا يمشي ببطء ليرضي أحدًا، ولا يسرع ليهرب من أحد. له طريقه، سنته، ثباته. أما أنتم… فهل تسيرون بثبات نوركم؟ أم تستعيرون البريق من الآخرين؟»
كنت أرى في الصمت إجابة, وفي العين رضا.
قلت:
كل شيء يشيخ إلا الضوء, كل شيء يتعب إلا الفوتون. كل مادة تنتظر توقف الزمن عنها, إلا هذا الكائن العجيب فهو يحمل رسالة الحركة الأبدية, الى اجل مسمى. نحن نعاني من ثقل قيود الشهوات والآمال والتسويف، بينما هو متحرر من كل قيد فهو الإشراقة التي لا تحجب، فاذا اردتم الخلود فاقترِبوا من مصدر النور (الله نور السماوات والارض) وابتعدوا عن ظلمات الجهل.
خرج الطلاب بعد ذلك بصمتٍ المتفكر. بعضهم حمل دفاتره كطفل يريد حمايته، وبعضهم مشى وحده دون كلام. أما أنا، فبقيت واقفًا عند السبورة قليلًا، أحدّق في الموجة والخط والنقطة.
وهمست في نفسي:
«هل نجحت في إيصال رسالتي, كما فعل النور بنا؟ كيف نكون أقل ثِقَلًا في تقديرنا لأنفسنا، أسرع حركة في طريق الخير، وأكثر صفاء في تعاملنا مع الناس؟»



