13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

جناحان من عجلات

قطعة من الحديد والعجلات أصبحت درسًا في الشكر  والحمد والرحمة وجرعة من الفرح ويد مساعدة في هذه الحياة المتعبة؟ الكرسي المتحرك الذي يراه بعضهم قيدًا وثقلًا، تحول في حياة آخرين إلى وسيلة للنهوض من اليأس والإحباط للتحرك والانطلاق، كجناحين صغيرين يحملان الروح حين تتعب القدمين.

كنت أمشي بخفة ذات يوم، أسبق الريح، أتجاوز الأرصفة بثقة من يعرف أن الأرض صُنعت لتطأها قدماه. كل شيء كان بسيطًا حتى تلك اللحظة التي التف فيها العمر كمنعطف حاد بما حدث له وما جاءت به احداث هذه الحياة وأقدارها ، فارتج الجسد وخمدت وسكنت الحركة. استيقظت بلا حركة في ساقي، لا أمر يصل، لا تحكم، ولا استجابة. الأطباء قالوا كلماتهم الهادئة، وانصرفوا، لكن صوتًا واحدًا ظل يتردد في داخلي: لن تمشي كما كنت، أصبحت مُقعدًا! . هذه الجمل كانت بداية مواجهة مع نفسي مع ذاتي القديمة، مع الرجل الذي كان يرى الحياة من ارتفاع القوة حيث كان قويا يمشي على قديمه دون حاجة أو شفة من أحد كما اعتقد وأفكر في خلجات نفسي، لا من عمق التجربة ولا نهاية طريق.

بدأت رحلة الانزواء وعدم الرغبة في الخروج أتوارى عن أعين الناس، كي لا أكون  ولا أُرى بينهم بكرسي متحرك. رفضت الكرسي كأنه خصم متربص وعدو لا صديق نافع، ورأيت فيه فضيحة لضعفي أمام الناس. كنت أرى صورتي السابقة تمشي بينهم، ترفع رأسها —الذي ما كانت تعتقد أو تتخيل أنها في يوم من الايام أن تكون بلا قدمين — وتتعثر خطوتي الجديدة بخجل  واستحياء شديدين. صرت أتوارى عن الوجوه التي عرفتني واقفًا وقويًا، وأغلق الأبواب في وجه الدعوات والزيارات وحتى  المبادرات من أهلي وعائلتي وأصدقائي. ثم بدأ الزمن يطوي بيته علي، يغلق النوافذ، يطفئ الرغبة في كل شيء، حتى صرت أنا والجمود شيئًا واحدًا، وصرت أنا و الجدران والسجن — بيتي — عالم من ذلك العالم لا من عالم الأحياءِ.

جاء ابني  في ذلك الصباح المضيء بما جاء به، يحمل إلي كرسيًّا جديدًا، وقال بصدق وبر لم تبلغه الكلمات: “أبي، هذا الكرسي يتحرك و يمشي.”
"حياة تخليك تفرفر وتشوف الدنيا وانت مبسوط وسعيد".
لم أفهمه فورًا، لكنه أصرّ أن نخرج معًا بذلك الكرسي لأرى هذه الحياة والتجربة الجديدة به. كانت العجلات تدور ببطء، ومع كل دورة كانت تدور فكرة في رأسي: أن الحياة لا تكتمل بالقدمين، كما كنت اعتقد وتكتمل بالعزيمة والإصرار. الهواء الذي نسيت رائحته ونسيمه لامس وجهي كتحية قديمة " أهلا أهلا بأبي فلان" "أهلا أهلا بالغائب العائد "، والأرصفة بدت أرحب، والناس أكثر دفئًا وإقبال. أم خالد التي تقطن في الحي المجاور لما رأتني وحيّتني، رفعت يدها بالدعاء، وطفلٌ لوّح لي ضاحكًا، وغيرها من المواقف. أدركت حينها أنني أنا من كنت أحتاج إلى نظرة الناس، لا هم من يحتاجون إلى أن يخفوا نظرتهم عني. إذ ترتاح وتطيب النفس.

ذلك اليوم لم يُعدني إلى الخارج والشوارع والبيوت والناس فقط، لكنه أعادني بحق وبكل صدق إلى الحياة إلى حريتي وحرية النفس وارتياحها التي ظلمتها بسجني إياها بين الجدران على ذلك السرير. رأيت معنى قوله تعالى:

«وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» — البقرة: 216

ومنذ ذلك اليوم  تغيّر كل شيء. أدركت أن الجسد قد يُقعد ويتعطل جزء منه، لكن الفكر لا يُعطل ولا يُقيد وينطلق. فلا تحبسه، فالطريق والحياة خطوات لا تُعد، ورغبة وأمل يتحركان في داخل الإنسان ما سارت الحياة. نعم، لم أعد أرى الكرسي للمقعدين إلا آلة صنعت لانطلاقة جديدة وحياة أرحب. كثيرون راقدون على أسرّة لا تتحرك إلا بأزرار الأجهزة، ومع ذلك أرواحهم ساكنة لا تنبض كأنهم أموات يحسبون ويعدون أيامهم ليس إلا. وهناك من يسير بعجلات بسيطة وكرسي متحرك، يجر العالم معه بأمل وابتسامة سعيدة ممتلئة وطافحة بالحياة، وقلبه الفرح و الدعاء والحياة.

بعض من الناس أصابه مرض أو حادث أو كبر في العمر، فاستسلم للخجل وكأن الحياة انتهت وانتهى منها، يخاف أن يراه الناس على هيئة لم يألفها هو ولم يألفه الناس عليها، فيختار ألا يراه الناس و يختار الغياب عنهم. ذلك الغياب أخطر من العجز نفسه، لأنه يُميت فينا الشغف والحياة والحماس والطموح شيئًا فشيئًا، فالانزواء الطويل يذبل الفكر والنفس و الجسد أكثر مما يريحهم، ويحرم صاحبهم من الهواء واللقاءات  التي كانت ستعيد إليه بعض القوة والحركة والأمل. فالكرسي الذي يظنه عدوًّا، في الحقيقة يمدّ له يدًا جديدة، يدًا من رحمة الله، تفتح أمامه بابًا آخر للمضي بنبض حياة أبهج.

الله لا يترك من يسعى، فقد قال سبحانه:

«وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» — العنكبوت: 69

فلا تعتقد أبدا أبدا ان الكرسي هو إعلان هزيمة، وتذكّر بأننا ما زلنا أحياء نستطيع أن نتحرك لا أن نشل حركتنا  بأنفسنا. وهذا دليل على أن الإصرار يمكن أن يتخذ شكلًا من معدن وبراغي، لكنه يظل أقوى من كثير من الأقدام. في كل عجلة تدور حكمة، وفي كل خطوة صغيرة نية طيبة تعيد ترتيب النفس والحياة.

هذه التجربة جعلتني لا أبحث عن الشفقة، وابحث عن الشكر وحمد الله تعالى. عرفت أن الإنسان حين يشكر ويحمد، يتسع له الطريق ولو كان ضيقًا برحمة الله. وأن الابتلاء هو رحمة وليس حجرًا يُقعدنا و هو نافذة نطل منها على معنى أعمق للرضا بقدر الله عز وجل.

الكرسي الذي خشيت أن يفضح ضعفي صار رفيقًا واعز رفيق ، فالقوة في القدرة على النهوض كلما سقطنا وأُصبنا وأن لا نركن لضعفنا مهما حدث.

من يعيش متذمرًا يخسر قبل أن يبدأ وكتب ما لايحمد عقباه في سطور حياته، ومن يتنفس بنفسية صامدة وقوية يكون  هو من يدفع كرسيّه ليربح معركة تواجهه كل يوم وحياة جديدة. ولا تعتقد أن ما أقوله فلسفة تفاؤل، وإنما خلاصة اختبار طويل للروح ومشاهدات واقعية لبعض لا بأس بهم من الناس وقعوا في هذا البلاء والحال والاختبار. فالعجز الحقيقي حين نخاف من مواجهة الناس، والحرية حين نواجههم بحمد وهدوء وحياة.

وهكذا صار الكرسي المتحرك في حياتي بابًا نحو نور جديد. تعلمت فيها أن الطريق إلى الرضا والحياة  يُقطع بالقلب والأمل  والروح المرحة لا بالقدمين فقط. وأن من قال تعالى فيهم:

«فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» — الشرح: 6
هم الذين جرّبوا العسر حتى اكتشفوا اليسر في أنفسهم.

إنه الكرسي الذي يجعلك تساير الحياة، كونه يروي كيف يعود الإنسان إلى نفسه من حيث ظن أنه انتهى.

فمن عرف كيف يشكر ويحمد، فقد سبق وانتفض ونهض وسار بالحياة حياة.


error: المحتوي محمي