تعيش في هذه الدنيا وتمر من خلالها بمحطات تتعرف فيها على وجوه شتى، فترتبط بمن تهوى النفوس، فتفرح لفرحها وتحزن لأي كربٍ يجري عليها. وبحسب تلك العلاقة، فإذا كانت العلاقة قوية وحانت ساعة الفراق تكون أشد ألماً وحسرةً، نظراً لما يتركه فقدان العزيز من حزنٍ عميقٍ وجروحٍ نازفة.
يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا﴾ (آل عمران: 145).
وورد عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قوله: «نَفَسُ المرءِ خُطاهُ إلى أَجَله» (ميزان الحكمة ص34).
ولا شك ولا ريب بأن العلاقة الحسنة والعشرة الطيبة مع الآخرين تترك انطباعاً إيجابياً في نفوسهم، يجعلهم يشتاقون إليك إذا غبت، ويبكون عليك إذا فُقدت. وهذا مصداق قول أمير المؤمنين علي عليه السلام فيما ورد: «عاشروا الناس معاشرة، إن غبتم حنوا إليكم، وإن فُقدتم بكوا عليكم» (نهج البلاغة).
ما دعاني للكتابة عن ألم الفراق هو افتقادي لأصدقاء أعزاء على نفسي في فترات متقاربة جداً. ففي يوم الأربعاء 21 محرم 1447هـ تفاجأت صفحة الوفيات في القطيف اليوم برحيل الزميل والصديق السيد صالح بن السيد مهدي آل شرف إلى جوار ربه. ففي ذلك اليوم خرج من بيته كعادته ليقضي بعض حاجاته، ثم مر في طريقه على محل الجامع لبيع الأعشاب، وجلس معهم برهة بحكم علاقته الودية والعملية معهم، حيث يعمل بضع ساعات في المساء. ثم عرّج على مجلس المرحوم الحاج علي البناي (أبو عبدالعزيز) ليتناول معهم كوباً من الشاي ويتحدث بكل أريحية، ثم عاد قبل صلاة الظهر إلى بيته، وهناك شعر بالإرهاق والتعب فطلب من زوجته أم زكي كوب ماء، وما أسرعها من ساعة إذ كان القدر ينتظره، ففارق الحياة وتعود الروح إلى بارئها. رحمك الله يا سيد صالح.
تعرفت عليه منذ اليوم الأول الذي باشرت فيه العمل بوظيفة كاتب في مبسط مؤسسة سعيد سليس بسوق السمك بالجملة بتاريخ 21/06/1407هـ، حيث كان يعمل السيد وزّاناً، وعلاقة الكاتب بالوزّان علاقة وثيقة فكلاهما يكمل الآخر. واستمرت علاقتنا حتى بعد التقاعد، إما من خلال لقائنا في معرض الضامن عند الأخ أبو نبيل بحكم صداقته معه، أو من خلال الاتصال المباشر والتحدث عن شؤون المأتم باعتبار السيد قائماً على مأتم حسيني في مسجد النور بالشريعة، أو نلتقي في بيته عندما يدعو بعض المؤمنين لتناول وجبة غذاء. وهو بالمناسبة رجل بسيط وكريم الطبع، يطبخ في بيته أو في المطعم ويوزعه في المأتم، ويتصل بأصحابه وأصدقائه ليتناولوا منه. رجل ولائي محب حقاً، وخادم لجده الإمام الحسين عليه السلام بصدق.
ويوم السبت 21 ربيع الأول 1447هـ فقدنا الزميل والصديق والشريك الرجل الكريم الحاج السيد كاظم بن السيد يوسف آل حسين، وهو أيضاً من أهالي حي الشريعة. تعرفت عليه في مناسبات عابرة، ثم توطدت العلاقة معه في مبسط سوق السمك منذ عام 1407هـ لكونه متعهد شراء الأسماك والروبيان للشركات والمؤسسات في العاصمة الرياض. تحولت هذه العلاقة العملية إلى صداقة، ثم بعد مدة عملنا معاً في حملة البيان للحج مدة عشر سنوات، وقد أوضحت هذه العلاقة الوطيدة بيننا في تأبين خاص بمناسبة رحيله عن الدنيا. وكان لفقدنا لهذا السيد الجليل عظيم الشأن أثرٌ في النفس لا يزال حتى الآن.
أما الزميل والصاحب الحاج جمال بن علي سلمان العوامي، من أهالي أم الحمام العزيزة على قلوبنا، فقد انتقل إلى جوار ربه يوم الجمعة 18 ربيع الآخر 1447هـ. أصابني الحزن والأسى حينما استعرضت قروب زملاء شركة الكهرباء فوجدت خبر وفاة الزميل أبو علي، وبعد التسليم لقضاء الله وقدره استرجعت وترحمت عليه وقرأت لروحه الفاتحة.
تعرفت على أبي علي منذ الثمانينات (1980م) حينما التحقنا بالعمل في المبنى الرئيس لشركة الكهرباء (كهرباء الشرقية)، فكنت أعمل في إدارة العلاقات والإعلام، وجمال يعمل في قسم الجوازات، والفاصل بيننا وبينهم ممر بعرض مترين ونصف تقريباً. كنا نذهب معاً للمطعم في الدور الثالث لتناول وجبة الغذاء، وكان يحضر بعض الزملاء للجلوس على الطاولات المجاورة مثل: ناصر آل حبيل (زميل جمال في القسم)، وعلي درويش (العلاقات الحكومية)، وعلي الجميعان، وعبدالله مزرع (العلاقات العامة)، وعيسى الرويعي (رئيس قسم العلاقات العامة) وغيرهم.
هكذا كان حالنا بشكل يومي، نتناول فيه الطعام ونتبادل الأحاديث الشيقة، واستمر حالنا لأكثر من عشرين سنة ونحن على علاقة من المحبة والأخوة والاحترام. وحتى بعد التقاعد، صرت أتواصل مع المرحوم جمال عبر وسائل التواصل أو الاتصال المباشر.
نصيحتي لنفسي وللإخوة الزملاء والأصدقاء: حينما يرون خبر وفاة زميل لهم، ألا يكتفوا بالترحم عليه من خلال القروب فقط، بل يبادروا للذهاب إلى تشييعه والصلاة عليه وحضور مجلس الفاتحة، وأداء صلاة الوحشة أو الهدية ليلة الدفن إن أمكن، والدعاء له في أعقاب الصلوات، وذكره في صلاة الليل بالاسم، وإهداء ثواب أعمال العمرة والزيارة إلى روحه، والترحم عليه كلما مر بخاطرك. فهي مبرّات يستحقها الزميل الذي عشت وتعاملت معه طوال سنين العمر، وربما كانت أطول فترة تقضيها معه أكثر من عائلتك.
وهذه سنة الحياة في هذه الدنيا الدنية، وصدق الشاعر أبو الحسن التهامي إذ يقول:
حكمُ المنيةِ في البريّة جارِ
ما هذهِ الدنيا بدارِ قرارِ
بينا يرى الإنسانُ فيها مُخبراً
حتى يُرى خبراً من الأخبارِ.



