13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

تمكين الإنسان… الهدف الأساسي في العمل الخيري

إلى القارئ الكريم الذي رافق هذه السلسلة منذ بدايتها، شكرًا لصبرك واهتمامك، ولتفاعلك مع قضايا العمل الخيري التي تمسّ جوهر مجتمعنا.

كانت هذه السلسلة محاولة لفتح حوار هادئ حول العمل الخيري من الداخل، من اختيار الأعضاء إلى أداء الجمعيات، وصولًا إلى الغاية الأسمى: تمكين الإنسان، وهي النقطة التي تتقاطع عندها كل الجهود والمفاهيم.

ظلّ العمل الخيري لعقودٍ عنوانًا للبذل والعطاء في مجتمعاتنا، لكنه في كثير من الأحيان توقّف عند حدود المساعدة العاجلة، ولم يخطُ بالقدر الكافي نحو التمكين المستدام.

كم من أسرةٍ أُعطيت معونة مالية فعاشت بها أسبوعًا، لكنها لم تجد طريقًا لتأمين مصدر دخلٍ يضمن لها الكرامة على المدى الطويل. وكم من مشروعٍ خيري أنفق أموالًا طائلة في الإنفاق الاستهلاكي، بينما غابت عنه الرؤية التنموية التي تُنتج أثرًا يدوم.

المسافة بين المساعدة والتمكين ليست مالية بل فكرية. فالمساعدة تُعطي السمكة، أما التمكين فيُعلّم الصيد. والانتقال من الأولى إلى الثانية يتطلب أن تتعامل الجمعيات الخيرية مع المحتاج لا بصفته مستهلكًا للخدمة، بل شريكًا في صناعة الحل. فحين تُمنح الأسرة تدريبًا مهنيًا، أو تُساعد على إنشاء مشروعٍ صغير، أو تُوجّه للاستفادة من برامج الدعم الحكومية، فإنها تتحول من متلقية إلى منتجة، ومن عالة إلى قوة اقتصادية فاعلة.

التمكين لا يعني التخلي عن المساعدات الطارئة، فالحالات الإنسانية العاجلة ستبقى موجودة، لكن المطلوب هو أن تكون هذه المساعدات مرحلة مؤقتة لا أسلوبًا دائمًا.

لذلك على الجمعيات أن تعيد هيكلة برامجها بحيث تقيس الأثر لا الإنفاق؛ فليس المهم كم صُرف، بل ماذا تغيّر في حياة الناس بعد الصرف. كما ينبغي أن تربط الدعم بخطط تطويرية، وتعمل بالشراكة مع القطاعين الحكومي والخاص لتوفير التدريب والتوظيف وفرص الاستثمار الصغير.

المجتمع الذي يكتفي بالمساعدة يبقى في دائرة الحاجة، أما المجتمع الذي يؤمن بالتمكين فيبني الاكتفاء الذاتي. ومن هنا، تتجاوز الجمعيات الخيرية دورها التقليدي إلى أن تصبح مؤسسات تنموية تُسهم في خفض البطالة وتحسين جودة الحياة وصناعة ثقافة الإنتاج.

وهذا التحول لا يتحقق إلا بمجالس إدارة تمتلك رؤية اقتصادية، وبفرق عمل تعرف لغة التخطيط والتقييم والحوكمة، لا لغة الصرف والتوزيع فقط.

إن جوهر العمل الخيري هو خدمة الإنسان، لكن خدمته الحقيقية ليست في سدّ رمقه ليوم، بل في فتح باب رزقه لعمرٍ كامل. فحين يتحول الدعم إلى تمكين، والمساعدة إلى شراكة، يتحول العمل الخيري من مشروعٍ إنساني محدود إلى مشروعٍ وطني مستدام، يشارك في بناء اقتصادٍ اجتماعي متين، يعيد للمجتمع توازنه، وللإنسان كرامته، وللخير معناه الحقيقي.

فالمجتمع المُمكَّن هو الذي يتقاسم المسؤولية، لا ينتظر العطاء، بل يصنعه.


error: المحتوي محمي