13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

لعبة التذوّق

التذوّق كلمة صغيرة، لكنها أشبه بصندوق سحري إذا فُتح تدفّقت منه عوالم شتّى. قد يظنّ البعض أنها تخص الطعام فقط؛ تلك اللقمة التي يختبرها الطاهي قبل أن يرفع الطبق إلى الضيف، أو ذاك الخبير الذي يغمض عينيه ليحكم: الملح ناقص، والبهار في غير وقته. غير أن التذوّق أوسع من المطبخ، إنّه مزاج إنساني يتسلّل إلى كل زاوية من حياتنا: في اختيار الأثاث، في ترتيب البيت، في انتقاء الشريك، وحتى في طريقة الجلوس أو شكل الابتسامة.

كنتُ مع صديقي وأخي أبا صادق نتذاكر هذا الأمر، فاستحضر مقولةً كان يرددها الآباء في زمن مضى: “لعن الله المتذوّقين والمتذوّقات.” عبارة ساخرة أطلقها المجتمع على من يُبالغ في اختبار كل شيء. ضحكنا ونحن نتأملها لا كحكم شرعي ولا نص ديني، لأن الكلمة تغيّر معناها باختلاف الموقف: قد تُشير إلى تذوّق الطعام في الولائم، أو إلى الذوق في الملابس، أو حتى التذوّق في الزواج إذا جس المرء قلبه قبل أن يُلقي به في بحر العِشرة.

المتذوّقون صنف اجتماعي لا يخطئون طريقنا. تكشفهم بسهولة: ذاك الذي يدخل بيتك فيسبق السلام بملاحظة عن الإضاءة، وتلك التي تهمس في عرس: “الفستان جميل، لكن الطرحة أظلمته.” وهناك من يجلس على المائدة لا ليأكل، يجلس ليمارس وظيفة “لجنة التحكيم”: يرفع الملعقة، يغمض عينيه، ويصدر حكمًا يختلط فيه النقد بالشعر.

المشكلة أنّ هؤلاء لا يرهقون الناس فحسب، بينما هم يرهقون أنفسهم قبل غيرهم. حياتهم سلسلة متواصلة من مقارنات لا تنتهي: هذه القهوة باردة وهيلها طاغي، هذه الكنبات قديمة، هذا اللون انتهت موضته. حتى الحب والزواج عندهم يدخلان في مختبر التذوّق: “ضحكتها ساحرة، لكن صوتها خشن.” هذه طويلة وهذه قصيرة، هذه مليان وهذه ضعيفة، هذه خشمها طويل وتلك مفروش. مساكين، كأنهم يعيشون في برنامج مسابقات لا يعلن الفائز فيه أبدًا!

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن وجودهم يضيف شيئًا من البهجة. إنهم بهارات المجالس؛ يثيرون الضحك حينًا والجدل حينًا آخر، ويضعون أمامنا مرآةً ساخرة تجعلنا نعيد التفكير في أبسط تفاصيلنا. فالتذوّق في جوهره فنّ لا نقيصة: هو الذي يجعل من زهرة عادية قصيدة، ومن لحن بسيط نافذة على الروح. غير أن الإفراط فيه يحوّله إلى عبء، ويجعل صاحبه تائهًا بين البحث عن الأطيب والخوف من أن يفوته الأجمل.

أحيانًا أشعر أن مجتمعاتنا بحاجة إلى “مدارس تذوّق” تشمل الكلام والحوار، تقدير الفنون، وحتى اختيار الشريك ولا تقتصر على المائدة فقط،. فالتذوّق هنا يصبح أداة تهذيب، يرفع الناس من سطحية العادة إلى عمق المعنى.

وحين أستعيد تلك العبارة القديمة “لعن الله المتذوّقين والمتذوّقات”، أبتسم. ربّما لم يدرك من أطلقها أنه يصف بشرًا يحاولون أن يختبروا الحياة قبل أن تبتلعهم. ولو أردنا إعادة صياغتها اليوم لقلنا: “رحم الله المتذوّقين والمتذوّقات”؛ فهم الذين يمنحون للحياة طعمًا آخر، يذكّرنا أن العيش رحلة تذوّق طويلة، نُمسك فيها الملعقة تارةً والروح تارةً أخرى دون ابتلاع عشوائي.


error: المحتوي محمي