13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

وجوه لا تُنسى: المعلم عبد الكريم الحليلي “ذاكرة التعليم والمجتمع”

في زوايا الذاكرة، حيث لا تصل يد النسيان، يظل وجه المعلم القدير عبد الكريم بن حسن بن مكي بن علي بن محمد الحليلي ماثلًا كصورة لا تُمحى، وكأن الزمن حين مرّ به توقّف قليلًا ليحفظ ملامحه في سجلّ الخلود. لم يكن مجرد معلم، بل كان ملامح التعليم حين كان التعليم ملامحًا، وكان المدرسة حين كانت المدرسة بيتًا، وكان الأب حين كانت الأبوة رسالة لا تُقال بل تُعاش.

كان يمشي في أروقة المدرسة كما يمشي في قلبه، يعرف كل طالب باسمه، وكل حلم في عينيه، وكل خوف يسكنه. لم يكن يدرّسهم فقط، بل كان يقرأهم، يكتبهم، يحررهم من قيود الجهل ويمنحهم مفاتيح الحياة. في زمن كانت فيه المدارس تُبنى من الطين، كان هو يبني العقول من نور.

في القطيف، حيث تتقاطع الأزقة بين التاريخ والحنين، كان المعلم الحليلي أحد أعمدتها التربوية. لا يُذكر التعليم إلا ويُذكر اسمه، ولا تُروى حكاية مدرسة إلا ويُروى أثره. كان مديرًا لا يعرف الكرسي، بل يعرف الممرات، يعرف السبورة، يعرف وجوه الطلاب حين تشرق بالمعرفة، ويعرف وجوههم حين تغيب عنها الطمأنينة.

وُلد الأستاذ عبد الكريم الحليلي عام 1364هـ (1945م تقريبًا) في بيئة بسيطة تُقدّس العلم وتُجلّ أهله. ابتدأ طريقه بختم القرآن الكريم، ثم ولج المدرسة الابتدائية، وبما أنه كان قارئًا وكاتبًا منذ صغره، فقد باشر الدراسة من الصف الثالث مباشرة، متقدمًا بخطواته الصغيرة ليشق طريقه بعدها نحو معهد المعلمين بالرياض، الذي كان آنذاك يعادل المستوى المتوسط، حيث تفتّحت أمامه أبواب التربية لتكون التعليم رسالته الأعمق لا مجرد مهنة.

• معلم حمل المدرسة على كتفيه

بدأت مسيرة التعليم والعمل في مدينة بقيق حيث قضى فيها نحو سنتين، قبل أن ينتقل إلى منطقة أم الحمام ليستمر أربع سنوات أخرى. ثم عُيّن مديرًا لمدرسة سلمان الفارسي بالقديح، تلك المدرسة التي عُرفت “بالكبيرة” والتي خرجت من رحمها مدارس عدة. لم يكن المبنى مستقرًا، فقد تنقّلت المدرسة بين بيوت متفرقة: بيت راشد الشاعر، وبيت الوزان، وبيت العلوان (مدرسة الفتح، ومدرسة عبادة بن الصامت، ومدرسة نعيم بن مسعود)، حتى استقرّت في بنائها الدائم.

لكن الاستقرار الحقيقي كان في وجوده، في صبره الذي جعل من الفوضى نظامًا، ومن ضيق الإمكانات فضاءً للإنجاز. على امتداد سبعة وثلاثين عامًا ظلّ الحليلي وجهًا مألوفًا للتعليم في المنطقة، من تنظيم المسرحيات ومسابقات الإملاء إلى التجارب الأولى في الطباعة بالحاسوب. كان يرى أن التعليم تجربة حيّة تلامس الفكر والروح والوجدان، متنقّلًا بين المدارس قبل أن يختتم رحلته في المكتبة العامة بالقطيف ليواصل عطائه قبل التقاعد بعد مسيرة حافلة. نعم، كان رجلًا يُمسك بزمام المدرسة كمن يحمل بيته، يُنفق من وقته وماله ليظل الطلاب على مقربة من المعرفة. كان يؤمن أن التعليم ليس جدرانًا ومقاعد، بل حياة كاملة تبدأ من الصف ولا تنتهي إلا في المجتمع.

• مكتبة خاصة تتنفس بالحياة

لم يكن الحليلي إداريًا جامدًا ولا معلمًا مكرّرًا. كان قارئًا نهمًا محبًا للكتب حتى ملأ بيته بمكتبة ضخمة تحوّلت إلى علامة من علامات حياته. لم تكن الرفوف مجرد زينة، بل حياة يومية تنبض؛ يقرأ، يدون، يعلّق، ويُشرك من حوله في بهجة المعرفة. والطلاب الجامعيون الذين كانوا يأتون لإعداد بحوث التخرج كانوا يجدون عنده صدر الأب وكرم المضيف وحرص المعلم، يهيئ لهم المجلس ويقدّم بنفسه القهوة والشاي. كانت كتبه امتدادًا لروحه، حتى أن إرثه لم يكن محصورًا في الأبناء والطلاب، بل في آلاف المجلدات التي تركها شاهدة على شغفه بالعلم.

• رجل المجتمع والوجدان

لم يكن التعليم منفصلًا عن الناس، بل امتدادًا لحياتهم. كان الحليلي من مؤسسي المجلس الأهلي في القديح، وفاعلًا في الأنشطة الاجتماعية والخيرية. كان من بين من غرسوا بذور الخير في أرض جمعية مضر الخيرية، ومن الذين حملوا شغف الرياضة والثقافة في نادي مضر، وأوائل من فتحوا أبواب العلم للفتيات الصغيرات، ساعيًا لأن تتفتح عقولهن بالمعرفة منذ أولى خطواتهن. ترك أثره في كل من لامسته أعماله وإيمانه برسالة العطاء والتعليم. حتى بيته كان مجلسًا عامرًا أشبه بملتقى العائلة في حميميته، حيث يلتقي فيه الأدباء والشعراء والمشايخ والتجار. لم يكن الحديث عنده مقيّدًا بحدود، بل مفتوحًا على قضايا الناس وهموم المجتمع وآمال الغد. كوّن صداقات واسعة امتدّت من القطيف إلى الأحساء والبحرين وعُمان، ظل وفيًا لها حتى آخر أيامه، وما زال أصدقاؤه أوفياء لذكراه يتواصلون مع أبنائه في صورة نادرة من الوفاء.

• الأب الذي جعل البيت مدرسة حياة

في البيت، كان المعلم أبًا لا يغيب عنه الحنان، حتى في لحظات الصرامة. إذا عاقب أحد أبنائه، لم يترك الليل يمرّ دون أن يمسح على رؤوسهم أو يترك تحت وسائدهم ما يشبه الاعتذار الصامت. كان يؤمن أن التربية فعل يومي يُعاش لا نصيحة تُلقى.

كانت مائدة الغداء طقسًا مقدسًا عنده لا يُفرّط فيه، كأنه يريد أن يعلّم أبناءه أن الألفة لا تقل قيمة عن العلم. يوم الجمعة على وجه الخصوص كان للفطور نكهة خاصة، يعدّه بيديه، يجمعهم حوله في درس عائلي من نوع آخر. حتى حين أعدّ طعامًا بنفسه، كان الإتقان حاضرًا في كل قطعة خضار قُطّعت وكأنها بمسطرة، فالدقة عنده جزء من العبادة.

• ويبقى إرثًا يمتد

توفي يوم 25 شهر رجب عام 1429هـ عبد الكريم الحليلي (رحمه الله). لم يكن وجهًا عابرًا في دفتر المدرسة، بل كان الصفحة الأولى، وكان العنوان، وكان الخاتمة التي لا تُكتب إلا بالدمع والامتنان. هو من وجوه المملكة التي لا تُنسى لأنه لم يكن وجهًا فقط، بل كان ذاكرة تمشي وتعلّم وتحب وتضيء.

لكن أثره بقي في المكتبة، وفي المسرح المدرسي الأول، وفي جهاز الحاسوب الذي دخل الصفوف على يديه، وفي طلاب صاروا اليوم رجالًا ناجحين، وفي أسرته التي ما زالت تحمل قيمه دون أن يكررها يومًا بلسانه. لقد كان رجلًا جمع بين المربي والمثقف، بين الحزم والحنان، بين صرامة المسؤول ودفء الأب. شخصية لم تُكتب في الألقاب بقدر ما رُسمت في الذاكرة الحية للناس، لتبقى شاهدًا على أن بعض الوجوه لا تُنسى، لأنها ببساطة تصير جزءًا من روح المكان وزمنه.









error: المحتوي محمي