كان ياما كان، في قديم الزمان، كان في جزيرة تاروت بساتين ومزارع وأنهار تجري من عين العودة وعين أم الفرسان، وتكثر فيها النخيل وأشجار اللوز والتين والرمان، وتعشعش فيها مختلف الطيور وتعيش على أرضها مختلف الحيوانات، ويعد شهر أغسطس من كل عام موسمًا للرطب واللوز وغيرها من أصناف الفاكهة، ويعرف عند المزارعين بـ"موسم القيظ" لشدة حره وارتفاع رطوبته.
يعد موسم اللوز زمان أول من أجمل المواسم الزراعية في بلدتي (جزيرة تاروت)، حيث يترقبه الجميع كبارًا وصغارًا بفارغ الصبر، ويتميز اللوز البلدي بطعمه اللذيذ المختلف عما هو موجود في الأسواق اليوم، وموسمه يأتي عادة مع موسم الرطب وما يرافقه من تعب وجهد لدى الفلاحين الذين تجدهم يعملون على خرف الرطب بأنواعه المختلفة في المزارع والبساتين التي كانت تحيط بجزيرة تاروت.
للوز أشكال وأسماء مختلفة اصطلح عليها الفلاحون، وأشهرها اللوز (السكندري) المعروف بشكله وحلاوة طعمه الذي يشبه التفاح لكنه أصغر حجمًا، وتتميز قشرته بسمكها وكأن طبقة من الشحم تعلوها، وأشهر بساتين اللوز في جزيرة تاروت هو نخل: (سودا) وموقعه الأرض المتعرية والحزينة المقابلة لمبنى الهلال الأحمر السعودي حاليًا، وحينما تمر وتنظر إلى المكان تراه أرضا جرداء متعرية من جور الزمان عليها وعلى الكثير من المزارع والبساتين!
كانت (عين العودة) هي التي تغذي المزارع والبساتين بالماء في الجنوب، وعين (أم الفرسان) في الشمال قبل أن تأتي بعض الشركات حفر الآبار وتقوم بحفر الآبار الارتوازية هنا وهناك لضمان وجود الماء لدى المزارعين، وكان الحاج: عبد الكريم جمعان (أبو عبد الرسول) يرحمه الله، يسكن في نخل: (سودا) ويعمل فيه، وهو من أشهر الفلاحين في جزيرة تاروت الذين اعتنوا بأشجار اللوز.
كنت أنا وزملاء الطفولة والصبا ندخل ذلك النخل خلسة من بين البساتين المجاورة لنظفر بقطف اللوز لكن الحاج: (أبو عبد الرسول) يباغتنا بصوته فنركض خوفًا منه إلى خارج النخل، وما أجمل ذلك الرجل عندما يعبر من بين البساتين وهو يجر عربته المحملة باللوز الوفير، ويسلك الطريق الترابي بين أزقة البلدة الترابية قاصدًا الشارع الرئيس لنقل محصول اللوز إلى بلدة سنابس.
آه ما أجمل المزارع والبساتين التي كانت تتزين بها بلدتي (جزيرة تاروت)، التي أصبحت بين زينة العيون وذاكرة المكان، وما أجمل المكان حين نشاهد صفوف النخيل الباسقات على جانبي الطريق تتخللها مختلف الأشجار وهي ترسم لوحات أنيقة معلقة على أعمدة مضيئة تُرشد العابرين للبستان، ولهذا فإن اقتلاع النخلة أو الشجرة التي كان عمرها عشرات السنين ليس مجرد فقدان نخلة أو شجرة، بل إنه فقدان شاهد على الحياة.
تكثر أشجار اللوز المعمرة التي تجاوزت أعمارها عشرات السنين بين النخيلات في البستان، وهي ليست مجرد أشجار خضرة أو ظلّ، إنما هي سجلّ حيّ للتاريخ، تقرأوا في جذوعها حكايات أجيال، وعلى أغصانها المثقلة بالثمار تعلّقت الضحكات والذكريات لقطف ثمرة اللوز، حيث كنا نتسلق شجرة اللوز (القضب) كالسنجاب الذي يتسلق الأشجار بخفة ليقطف غداءه من الثمار المتدلي فوق أغصان الشجرة.
المرأة كانت جزءًا من الحياة اليومية في العمل إلى جنب الرجل في المزارع والبساتين، فعندما يستيقظ الفلاح باكرًا ربما هي سبقته بالاستيقاظ لتعمل القهوة ويشرب الزوج قبل أن يذهب إلى البستان لمزاولة عمله اليومي فيه، هذه هي حياة المرأة في زمن الطبيعة تعمل مع الرجل باكراً في البستان، وعند الظهيرة بترجع البيت لتعمل الغداء ثم تعود به إلى البستان لتفرش السفره جنب الساقية ويلتمَّ الجميع حولها لتناول الغداء.
الأشجار والنخيل العريقة التي كانت في بساتين ومزارع (جزيرة تاروت)، كانت ضاربة في القدم ومعالم خضراء تذكرنا بمن مضى، وهي جدران خضراء صامتة تحفظ روح الفلاحين في مزارعهم تمتد عبر الأجيال، وحمايتها ليست خيارًا يستهان به، بل واجب حضاري يساوي في قيمته حماية الآثار والعمارة القديمة، لكن العبث في قتل وجرف الأشجار بأنواعها طال كل شيء أخضر في (جزيرة تاروت)! وأصبحت الجزيرة مجرد رقعة أرض صحراوية تغطيها الخرسانات الإسمنتية، بعد أن كانت الرقعة الخضراء وشاح ضارب في القدم تتغطى به في كل اتجاه..!!
ختامًا: إن (جزيرة تاروت) كانت تمتاز بجمال طبيعتها وطيبة أهلها وعمق تاريخها، فمن يزُرها يندهش من بساتينها الغنّاء وعيونها الفوارة، وإطلالتها الساحرة على ضفاف الخليج العربي، حيث يشكّل البحر مصدر رزق وحياة وجمال لأبنائها، ولطالما كانت هذه الجزيرة رمزًا للهدوء والصفاء بعيدًا عن ضجيج المدن.



