13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

غياب بألف معنى 

في حياتنا اليومية، كثيرًا ما نُتَّهَم بأننا غائبون عن النقاش وإبداء الرأي، بينما الحقيقة أننا نختار الغياب، ونمارسه بوعي. فالأمر ليس عجزًا عن الكلام، ولا هروبًا من المواجهة، إنما دفاع عن العقل من أن يتحول إلى وقود في جدل أو مهاترات لا ينتهيان. هناك جدالات كالثقب الأسود، كلما اقتربتَ منها ابتلعتك ولم تُبقِ لك شيئًا سوى الإنهاك والتعب وربما المشاكل.

تصوّر مثلًا أن تجلس في مجلسٍ عائلي، يبدأ الحديث عن فاتورة الكهرباء، فيتحوّل فجأة إلى نقاش حاد و محتدم حول كرة القدم، ثم يقفز إلى مشكلة في البلدة. الجميع يرفع صوته، والجميع مقتنع أنه المالك الحصري للحقيقة. وحين تحاول أن تقول جملة هادئة، يأتيك الرد:
— “لا تقاطع!”
— “انتظر حتى أنهي!”
— “أنت ما تعرف شي!”
— “أنت مو فاهم السالفة!”

عندها تكتشف أن أجمل ما تفعله هو أن ترتشف استكانة  الشاي بهدوء و صمت، وتتركهم يتبارزون في الهواء. إنك لا تغيب عن ضعف، إنما تختار أن تحفظ نفسك من معركة لن يخرج منها أحد منتصرًا بل ربما بخسارة.

الغريب أن كثيرًا من الناس يخلطون بين الغياب وبين الهزيمة. بينما الحقيقة أن الغياب أحيانًا هو قمة النضج؛ هو أن تدرك أن المرآة المغبَّشة لن تصفو مهما أمعنت في مسحها. بعض العقول لا تشرب الحكمة مهما سكبت عليها من ماء، فهي مصقولة إلى حدّ انزلاق كل شيء عنها. والأسوأ أن منهم من يصرخ: “خذوه بالصوت!” فلا يترك لك مجالًا للكلمة، كأنه ببغاء يتغذى على الضجيج.

والمضحك أن المشكلة ليست أن الناس لا يفهمون، لكنهم لا يريدون أن يفهموا أو أنهم يفهمون دبدواخلهم و لكن المخرجات عكسية. هم يتقنون لعبة: “أسمعني أكثر” لا “أقنعني أكثر”. حواراتهم أشبه بمباريات ملاكمة، لا أحد يستمع، الكل يترقب لحظة الضربة التالية.

وفي كل مجلس، ستجد من ينصّب نفسه حَكَمًا يوزع شهادات فكرية: “هذا عاقل”، “ذاك ساذج”، “ذاك غبي”، “ذاك بهيم ما يفهم”“هؤلاء جهلة”. لكنه إذا تورّط في حوارٍ جاد، انكشفت هشاشته كزجاجة عند أول ارتطام. أمثال هؤلاء لا يقتلون الفكرة وحدها، إنهم يقتلون الرغبة في الكلام أصلًا، فيجعلون الغياب فضيلة، والسكوت نجاة.

والأجمل في الغياب أنه لا يُشعرك بالخذلان كما يظنّون، لكنه يمنحك راحة خفية، كأنك أنقذت قلبك من معركة خاسرة. تنظر إليهم من بعيد، فتراهم يتصارعون حول فتات التفاصيل، بينما أنت تحصد سكينةً لا يعرفونها.

الغياب ليس فراغًا، إنه امتلاء بالوعي. هو موقف يعلن أننا اخترنا أنفسنا على حساب نزيف الكلمات. وربما أجمل ما فيه أنه يترك الآخر يتخبط في مراياه حتى يتعب من نفسه. وحين يفيق، ولو بعد زمن، يكتشف أن الغياب كان أبلغ رد.

فإذا اتُّهِمت يومًا بأنك غائب وغير مشارك، فلا تُرهق نفسك بالرد. يكفي أن تبتسم، لأنك تعرف أن الغياب في لحظات كثيرة أرقى من أي كلام، وأحكم من كل برهان.


error: المحتوي محمي