13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

إلى الطائر المهاجر الصغير (مهدي أمين)

رثاء الطفل الراحل مهدي أمين آل رمضان

لا أتذكر أني رأيتك – في المرات القليلة التي رأيتك فيها – ماشيًا أو حتى مهرولاً، كنت دائمًا راكضًا مستعدًا للتحليق في تلك السماء العالية، سماء البراءة، السماء البعيدة التي توازي السماء السابعة، سماء الطفولة الباكرة، هناك حيث الفردوس الأعلى. 

تركض ما في وسعك كلما رأيت ابني أحمد خارج المدرسة، وتقول له ما يقوله الأطفال لبعضهم البعض حين يرون بعضهم في مكان أو زمان بغير ميعاد، وكلّما رأيتني جئت راكضًا تهتف بحماسة تخلط فيها الضمائر في جملة مرتبكة من فرح دهشة الصغار من الاكتشاف والتعرّف، بين ما يبدو وكأنه إشارة إلى أحد تحدّثه؛ وبين ما هو خطاب مباشر توجّهه لي: "داهو أبو أحمد سالم... ولدك صديقي !"
تسلّم.. فترجع راكضًا للعب الذي يلائمك أينما كنت.

لا أعرف صدقًا – يا مهدي - كيف أحدّث زميلك وصديقك المُقرّب في الصف منذ المَدْرَج الأول وهو الذي مذ ذاك لا يردّد سوى اسمك (مهدي أمين) واسم آخر(جواد) محتفيًا بصحبتهما. 

هكذا يحدث طوال اليوم؛ كلّما لاح له خاطر أو عرضت له قصة أو طرفة عَبَرَ باسمك إلى روح الحكاية، محدِّثًا عمّا جرى بين هذه الأنفس النقية والبريئة في ردهات المدرسة.  

لا أعرف – أنا الذي لا أجيد لغة الصغار- كيف أبعث له برسالة مفادها أنك حلّقت سريعًا وطرت إلى سمائك البعيدة في السماء السابعة، متعجِّلاً نحو فردوس الطفولة الأعلى الأبدي، والتحليق في جنة عالية مع الطيور المهاجرة إلى الأمان السرمدي والقدس الأزلي بعيدًا عن هذه الأرض التي كلّما تشبّث الواحد بالبقاء على ظهرها شدّته أكثر نحو الأدنى.

كم هو صعب يا صغيري أن يستوعب من هُم في مثل سنّكم الموت فضلاً عن أن يعاينوه ويعانوه فيعبُروا جسره نحو الأبد!

لولا أنها الجنة العالية، والخلود المقيم في ساحة الأصفياء والأنقياء والأولياء والشهداء. لولا أنك في ضيافة الله جلّ وعلا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين بك وبالطفولة البريئة وبوالديك المثكولَين.

لا أريد يا أحمد أن أعرِّفك بالحقيقة المجرّدة، وعوضًا عن ذلك سأَعبُرُ بك إلى تلك الحقيقة المرة  – حقيقة الموت- عبر جسر المجاز الذي نُعبّر به عن الراحلين الصغار؛ "طيور الجنة!"

إذ الحقيقة أكبر بكثير من أن يحملها قلب صغير يفقد صديقه فجأة، كما حصل ذات يوم مع عصفورك الصغير الذي ربّيته في البيت فلمّا مات كِدتَ تزهق نفسك حسرةً وبكاءً عليه!

ربما أخبرتك - أي بُنيّ - أن صديقك قد هاجر على أعتاب موسم هجرة الطيور – مبكرًا –بحثًا عن موئلٍ للراحة الأبدية من الألم والنَصَب الذي يزداد كلّما مرّت الأيام حتى يكبر الصغار. 

لن أكذب عليك بأنه يعود أكيدًا، بعد انتهاء موسم الهجرة، لكن ربما وجد في موئل هجرته الراحة والطمأنينة لقلبه المتعب، فانتظرك ووالديه وثاكليه عند باب الجنة الكبيرة والجميلة.

نعم، هذه هي الحقيقة التي تلبّسَت ثوب المجاز، وهذه هي حقيقة الكرم الإلهي الذي يُنعِمُ به على الكبار الذين يُحبُّونه فضلاً عن الصغار الذين يُحبُّهم فيُقرّبهم إليه أسرع ما يكون. 

هناك يا مهدي؛ حيث تستأنف الطفولة فصولها، وتنتهز فرص اللعب المبتسر والضحكة المبتورة والحكاية المجتزأة. حيث ترتدي الثوب الأجمل والحذاء الأجمل للجواز على الصراط بخطوات ثابتة لا تَزِلّ، تؤتى الكتاب الأنصع بيمينك الصغيرة صكًّا ممهورًا بختم براءة الطفولة، وهتافات الشبل الحسيني الصغير، فتستحقّ بها القصور العالية في أعلى رتب الجنة مع أطفال الحسين عليه السلام.

رحمك الله، ورحم القلوب الصغيرة التي أحبّتك، وشفّعك في القلوب الكبيرة التي وسعتك وأثكلها تحليقك المبكر أيها الطائر الصغير! وربط على قلوبهم وقلوب الفاقدين جميعًا بالصبر الجميل الذي يشبهكم أيها الصغار!


error: المحتوي محمي