تُخرج زوجتي خاتمًا صغيرًا من علبةٍ مخملية، وتضعه في كفّي كأنها تعيد لي قطعة من ذاكرة لا تعمل، ثم تسألني بابتسامة تمتحن صدقي:
ــ “تتذكّر هذا الخاتم؟”
أحدّق فيه قليلًا… أحاول أن أستفزّ ذاكرتي بكل ما أوتيت من خجل وذكاء، لكن لا شيء.
الذهول يتلبّسني، والفراغ يحوم حول الموقف والذاكرة، وكأنني دخلت مشهدًا لم أشارك في كتابته.
أبتسم كمن يمسك الخيط من وسطه، وأقول بتحفّظ:
ــ “أكيد… هذا من الذهب اللي يعجبك.”
تضحك، لا فرحًا، بل بدهشةٍ تحمل من العتب أكثر مما فيها من الغفران، ثم تتابع:
ــ “هذا اشتريته لي أنت… من محل الذهب (الفلاني)، يوم عيد زواجنا الثالث، بعد صلاة المغرب، في يوم اثنين… وقلت لي وقتها: (أحسّك تستاهلين الذهب، وأكثر… لابق عليك).”
تتسارع الذاكرة عندي كأنها تبحث في أرشيفٍ قديم عن صورة واحدة تعيد ترتيب الحكاية.
شيءٌ ما يعود إليّ… خافتًا، مشوشًا:
زحامٌ بسيط، حقيبة نسائية على الكتف، وأنا أحمل كيسًا صغيرًا، صوتُ البائع، وهي تجرّب خاتمًا… ثم لا شيء.
بعض التفاصيل تظهر ثم تنطفئ، كأنني أتذكّر شيئًا لم أعيشه بالكامل… وربما تبخّر.
لم يكن هذا الموقف الأول.
أنا رجلٌ صاحب “ذاكرة ممحاة”، تحفظ ما ترك أثرًا لا يُنسى، وتمحو كلّ ما مرّ عابرًا، وكلّ ما لم يوقف القلب لحظةً عنده.
أعرف وجوهًا ولا أتذكّر أسماءها.
أروي قصصًا ولا أعلم إن كنت حاضرها أم مجرد سامعٍ لها.
تمرّ في ذهني المواقف مثل عروضٍ غير مدفوعة في تطبيق الذاكرة: نسخة تجريبية… محدودة الصلاحية.
في طفولتي، كنت أتذكّر كلّ شيء، أحفظ أرقام المنازل، ألوان ثياب الأقارب، وحتى موديلاتها.
أما اليوم، فأنا بالكاد أتذكّر رقم سيارتي… أو اسم المعلّم الذي علّمني كيف أمسك القلم لأول مرة — وربما ليس بذاكرةٍ تامة.
لكن زوجتي، كغيرها من النساء، تمتلك ذاكرة لا تُشبه ذاكرتي في شيء.
ذاكرة تحفظ الأشياء بما فيها من شعور، لا بما فيها من حجم.
هي لا تتذكّر “الخاتم” فقط… بل تتذكّر اليوم، والمكان، والمناسبة، والمزاج، والكلمة التي قلتها، وحتى نغمة جوّالي التي رنّت وأنا أمدّ يدي لأدفع.
قلتُ مرةً لصديقي وأنا أروي له الموقف:
ــ “تخيّل! هي تتذكّر شكل الخاتم… ورائحته… وأنا ناسي أصلاً إني اشتريته!”
ضحك وقال:
ــ “هذي مو ذاكرة… هذا تسجيل صوتي مصوَّر بثلاث كاميرات!”
ضحكنا… ثم سألني بهدوء:
ــ “ليش إحنا ننسى التفاصيل… وهم لا؟”
أجبته:
ــ “لأنهم يكتبون الأحداث بالحبر العاطفي… وإحنا نكتبها بقلم رصاص.”
الفرق بيننا ليس في القدرة على الحفظ، بل في آلية الاختيار.
نحن نحتفظ بالعناوين… وهم بكلّ الفصول والتفاصيل.
نُجيد استرجاع الكوارث، الأحداث العظيمة، المصائب، والمفاجآت…
أما هنّ، فيحتفظن بهمسةٍ في غير وقتها، بنظرةٍ خاطفة، بكلمة خرجت عن السياق ولكنها دخلت القلب.
الخاتم عندي كان قطعة ذهب.
وعندها؟ كان “أنا”… يوم أحببت أن أُعبّر.
النساء يُتقنّ توثيق كلّ ما يحدث لهنّ في حياتهنّ، كأن اللحظات صندوق مجوهرات:
لكلّ لحظةٍ بريق، ولكلّ موقفٍ درج خاص، ولكلّ كلمةٍ وزنٌ عاطفي لا تراه عيون الرجال.
أما نحن، فغالبًا ما نُلقي بالمواقف على طاولة النسيان بعد انتهاء الحاجة منها، كأنها أوراقٌ مهمة في زمنها… لكن بلا أرشيف.
ولذلك، حين تسألنا المرأة عن ذكرى صغيرة، ونقف متلعثمين، فليس لأننا لا نُحب، بل لأننا نُحبّ بطريقة لا تُفكّ رموزها عبر التفاصيل… لاختلاف ذاكرة الرجل عن ذاكرة المرأة.
ومع ذلك… حين نسينا نحن، تألّمن هنّ.
لأن السؤال لم يكن عن “خاتمٍ” نُسي، بل عن “نفسك يوم أحببتها”… هل لا تزال تتذكّرها؟
هل ما زلتَ ترى فيها ما كنتَ تراه؟
هل لا زالت الهدايا تعني لك شيئًا، كما كانت تعني وأنت تمسك الخاتم بيدٍ مرتجفة؟
أم أن الذاكرة، كالعاطفة، فقدت بريقها مع الزمن؟
قلت لها أخيرًا، وأنا أبتسم بحياء:
ــ “ربما نسيت الخاتم… بس ما نسيتك يوم لبستيه. حليتي الخاتم.”
ابتسمت… كأنها غفرت ما لا يُغتفر.
فالذاكرة التي تسكن القلب… لا تُفرمت.
هكذا نحن:
ننسى كثيرًا من الوجوه، ووجبات المطاعم، وطرق السفر، وماركات الهدايا…
لكننا لا ننسى من لمس قلوبنا…
ولا من جعلنا نشعر أن اللحظة تستحق أن تُحفر.
فالحياة، في النهاية، ليست ما نملكه… بل ما نتذكّره بحب.



