في هدأة الليل، حين تخفت الأصوات، وتغفو البيوت وساكنوها، يستوقفنا المشهد الصامت نتأملها من شاهقٍ، ونسأل أنفسنا: يا تُرى، من يسكن خلف تلك الجدران؟ من غادرها ومن حل بها؟ وكم من ساكن فيها، وكم من سعيدٍ وكم من محزون بها وغريبٍ أو وحيدٍ عليل؟ وكم من طاعن وطاعنة بالسن ليس لهما قريب وحبيب!
هل لا تزال تنبض بالحياة، بالعلاقات، بالتواصل، بالجيرة الحسنة، أم أن ذلك طُوي طي النسيان؟
أسئلة مختزلة، لكنها تختزن في التفاصيل الكثير من الأسرار، فالبيوت أسرارٌ كما يقال.
ولكن، ونحن نتفحّص هذا الظاهر، لا بد أن نقرأ العناوين التي فرضها الحاضر، والذي بدوره صاغته حياتنا المتسارعة.
في هذا السياق، أستحضر الماضي البعيد، حين كانت الجيرة قرابة، والعلاقات أسرية، والناس بنبض قلبٍ واحد.
في الماضي لم تكن التنشئة الاجتماعية مصطلحًا نظريًا يدرَّس، بل ممارسة حياتية منذ الطفولة، تتشكل خلالها الأسرة، والأحياء والعلاقات الإنسانية والمصالح المشتركة والقرابة، ويتقاسم الناس الفرح والحزن واللقمة والمكان والزمان.
اليوم انقلبت الصورة، وتغيرت المعادلة تمامًا، وبسرعة مذهلة. فالتكنولوجيا اقتحمت البيوت والقلوب وأخلت بالموازين، وعكست القيم “حتى بلغ تسونامي التغيير” ذروته، وأضحينا الآن نعيش عصرًا مختلفًا كُلّيًا.
فلم تعد الأسرة كما كانت، بل هي عبارة عن مجموعة من الغرباء يشتركون في العنوان لا غير، فقد تحولت البيوت إلى ما يشبه الفنادق أو الاستراحات.
فقدت المجتمعات أو تكاد عناصرها الأساسية، وانفرطت مسلماتها، فالحوار أضحى صمتًا، والقدوة أمست افتراضية، والروابط اُختزِلت لتصبح خصوصية بحتة.
ولعبت “العصرنة” دورًا كبيرًا في هذا الشتات، ومع مرور الوقت انفرط عقد العلاقات، وتخلخلت العادات القويمة القديمة، بل غُيّبت تمامًا، إلا من قليل يظهر على استحياء في ذاكرة العجزة.
كان للتكنولوجيا ومحتواها النصيب الأكبر من هذا التحوّل؛ إذ أصبحت هي الأسرة والقبيلة، والأخ، والأخت، والحبيب، والحبيبة، وصرنا نعيش الغُربة بمعناها الحقيقي، ونحن بين ذوينا.
اختفت العلاقات الاجتماعية، وغابت عن وعي الأجيال الحاضرة أهميتها، فلا يشعر بها إلا القليل، وفي المناسبات الروتينية فقط.
غابت التنشئة الاجتماعية، وانطفأت أنسنة الحياة، وحلَّ محلها الجمود، واللهاث خلف مظاهر الحداثة والمتغيّرات السريعة، التي ابتعدت كثيرًا عن القيم السامية التي يجب أن يتحلى بها الإنسان.
أصبحنا في أزمة وعيٍ تربوي، بين أجيالٍ ولدت في بيئة مختلفة نحن من هيأناها لهم، لا تتحدث فيها عن القيم، وأهمية الترابط الاجتماعي، وهنا لابد من مواجهة الحقيقة لكي نوازن بين العصرنة والتنشئة التي ننشدها، وأن نبدأ من الصفر. من الطفولة. أن نبني علاقة احترام، لا صرامة ولا دلال.
علينا غرس القيم الإنسانية بالمواقف لا بالأوامر والمحاضرات.
علينا أن نصحبهم معنا دون إكراه إلى دور العبادات والندوات، ومجالس الوعي وزيارات الأقارب والأصدقاء.
علينا أن نحثهم على المشاركة في الأنشطة والمناسبات المجتمعية المختلفة، وأن يكونوا أعضاء فاعلين فيها.
كل ذلك من أجل أن ننمي فيهم حس الانتماء والتفاعل المجتمعي البنّاء. ولا يعني ذلك حرمانهم من التعامل مع التكنولوجيا كوسيلة إيجابية، لا كبديل سلبي، وفق أسس تربوية كفيلة بحصانتهم، ودون رقابة خانقة.
في الختام لا يمكن أن نحرم الأجيال من حقوقهم، ومسايرة عصرهم، وإن كان من الواجب إرشادهم حتى يسيروا على الجادة.
كما يجب مرافقتهم دون وصاية وإرشادهم دون قمع، وأن نزرع فيهم الخير والمعرفة ليكونوا قادرين على التمييز في خضم تلاطم المتغيرات الهائجة.
التنشئة ليست موضة، بل هي ركيزة اجتماعية، لابد أن تتوارثها الأجيال بالامتثال والانتماء والاقتداء، جيلًا بعد جيلٍ.



