ورد أنّ الإمام الحسن المجتبى (ع) لما سُئل: فما المجد؟ قال (ع): «أن تعطي في الغُرم، وأن تعفو عن الجُرم» (بحار الأنوار، ج ٧٥، ص ١٠٢).
كيف يمكن لنا أن نتعرّف على درجات السمو والرفعة الإنسانية وما يتعلّق بها؟ وما الآليات والمسارات التي يمكن للفرد أن يسلكها ليقطف ثمار ما بدأه من خطوات؟
الأمجاد ليس لها مفهوم محدد في مختلف المدارس والاتجاهات الثقافية والفكرية؛ فهناك من يقصر معناها على الجانب المادي، فيرى الغلبة لمن يمتلك الثروة والاقتدار المالي لتحقيق كل ما يصبو إليه. وهناك من يراها في الاقتدار الإداري والمهاري وما ينجم عنه من سيطرة وإنجازات وعمل محترف في مختلف الميادين.
أما في المفهوم الديني، فلا يختلف عن المفهوم الإنساني النبيل والنظرة العميقة للفرد في جوهره ودواخله، لا في مظاهره الخارجية. فهناك جانبان مهمان يجليان معدن الإنسان ويقدمان قراءة واعية ومعمقة لشخصيته وأبعادها:
• الأول يتعلّق بما يقدّمه من عطاء ومواساة ومشاركة وجدانية مع احتياجات الآخرين وآلامهم والسعي للتخفيف من أعبائها عليهم.
• والآخر يتضمّن لونًا من ألوان التربية العاطفية والمحافظة على سلامة القلب من مشاعر الكراهية والأحقاد والانتقام ممن أساء إليك.
إنه – ببساطة – كيفية المحافظة على مدرسة القيم والأخلاق الحميدة عندما تكون على المحك بالتعرّض لموقف مأزوم؛ فتتخطى مرحلة الاختبار من خلال التمسّك بمبدأ العفو والتسامح، ومقابلة الإساءة بالإعراض عنها وكأنها لم تكن. هكذا يسود الإنسان ويعتلي منصة المجد والمكانة العالية عندما يحقق إنسانيته في أعلى درجات الفضيلة والتكامل.
وهذا ما يدفع الفرد إلى ميدان العمل الجاد من خلال مجهر المقارنة لذاته بين الأمس واليوم؛ فالمقارنة مع الآخرين رذيلة أخلاقية توجب السقم والحسد وتجلب الآلام. والصحيح أن ينظر الفرد إلى ذاته وتفاعلها مع العامل الزمني وتقادم الأيام علواً أو نزولاً.
فمن امتلك وعياً فكرياً وإرادة قوية في ميدان العمل استطاع أن يحوّل مواقفه إلى أفعال مستدامة تتجاوز الانفعال اللحظي. والمجد الإنساني يُنال من خلال الدخول في معترك النفس مع الشهوات والغرائز؛ فليس من السهل على الفرد أن يتجاوز حبّه لنفسه وللمال المتغلغل فيه، ثم ينخرط في ميدان العطاء والمشاركة الوجدانية مع من حوله، متخطياً مبدأ النفعية والمصالح الضيقة.
وكذلك على مستوى ضبط النفس والانفعال، فإن المرء يخوض تحدياً قوياً عندما توجَّه له إساءة أو استفزاز؛ فيتجاوز ردة الفعل الغريزية للهجوم على الآخر وتبادل اللكمات الكلامية معه، بل يتحكّم في ردات فعله المتزنة متلبساً بثوب النقاء والمجد، ويتجاوز تلك الإساءة ماحياً صورتها من ذهنه.
ولننظر إلى ما نحن عليه من شحّ النفس عند البعض، والتصحّر الوجداني تجاه حاجات الآخرين؛ إذ يمرّ عليها وكأنه لم يسمع أنّات الألم. وهذا ما يضرب العلاقات المجتمعية في الصميم، إذ يفقد المحتاج عندها الشعور بالانتماء والطمأنينة في محيطه.
كما أن الآثار السلبية للصفة الأخرى، وهي الانفعال الشديد عند وجود أي استفزاز، نراها جلية على مستوى العصف بالعلاقات الأسرية والاجتماعية.
في هذه الحكمة الحسنية نجد معالجة حقيقية لكثير من تلك المشاكل في علاقاتنا؛ حيث إن العطاء والتسامح يدلّان على نضج فكري وانفعالي ينعكس بصورة إيجابية على صحتنا النفسية، ويُرطّب علاقاتنا ويقوّيها.



