كانت الشمس تكسو البساتين الخضراء بضيائها الدافئ، ناشرة بأشراقتها البهجة والسرور، ممتزجة برائحة الياسمين التي تتسلل من بين شقوق أسوار سعف النخيل، نسمات بروائح زهرية وعشبية منعشة، كانت الروائح النفاذة تهب عليه من خلال نوافذ سيارته المفتوحة، التي سار بها ببطء حتى وجد موقفًا في بدايات شارع المحيط، ترجل متبعًا خط سير الوصف الذي أعطاه إياه التاجر.
كانت الأرض رطبة كما كان يعهدها أيام صباه عندما يأتي مع مجموعة من الأصدقاء قاصدًا عيون الماء العميقة، وبالتحديد عين حمام أبو لوزة و”الخباقة” و”الرواسية”. لاحظ التغير الكبير الذي حدث في هذه المنطقة، انخفاض ملحوظ في منسوب المياه، أصبح ذلك واضحًا من خلال قنوات المياه والصرف الزراعي. كانت المياه هنا غزيرة وجارفة، غنية بالأسماك الصغيرة، ومليئة بالضفادع والسلاحف والعديد من ديدان الأرض أيضًا، كانت الحياة البرية والفطرية شاهدة على خصوبة الأرض وحيويتها. أما ما يشاهده الآن فهو انحدار في الطبيعة بسبب قلة الماء والاستخدام الجائر لهذه الثروة المرتبطة بأساس الحياة، وتمنى ألا يكون الانحدار أعظم.
ورغم كل ما حصل هنا من انحسار، فلا زالت أشجار كثيرة متنوّعة تتهادى شامخة إلى عنان السماء، نضرة بخضرتها، وغزيرة في ثمارها. لم يخطر على باله أن يستمع إلى جمال الأصوات القادمة من البساتين؛ أصوات النساء وهن يقمن بالطبخ على مواقد الحطب، أو يغسلن ملابس وأدوات الطبخ في الترع الجارية، لكن ما شد انتباهه أصوات مضخات المياه وهدير المياه الدافقة من فوهات المواسير الكبيرة، على طول الطريق المؤدي إلى مزرعة التاجر.
هناك ما يستحق الاهتمام، حتى أصوات الديكة لها نغمة خاصة، فهي في حضن طبيعتها، تسرح حيث تشاء، وترفع أصواتها وقت احتياجها، وتتناغم مع الطيور والعصافير وحمام النخل الذي يملأ المكان ومخيلته.
كانت تلك الذكريات الجميلة التي يستحضرها في مخيلته انعكاسًا حقيقيًا للواقع الذي عاشه، إلا أنه ومع اقترابه من موقع النخل، عادت إليه مخاوفه، بل خوفه من المواجهة. فثمّة أسئلة تطرح نفسها، ولا يمكنه تجاهلها، فالأمر دقيق وحساس. التاجر قال له وهو يودعه: “في أمان الله”، ولم يقل له “سنلتقي”. فهل سيحظى بالاستقبال اللائق؟ وهل لا يزال التاجر بإمكانه الحديث والتفاوض ومقارعة الحياة وهو على الحال الذي تركه عليه؟ تمنى على نفسه أن تكون تلك الهواجس مجرد وهم، مدّ نظره إلى السماء مترجيًا أن يكون لهذا اللقاء نتيجة إيجابية، فهو لم ينطلق إلا من صدق المحبة.
واصل حاتم السير بهمّة أكثر محاولًا تفادي الاصطدام بأفكاره المقلقة، حتى وصل إلى باب المزرعة الخشبي. كان الباب مواربًا، وفي الداخل، بالقرب منه، رأى فلاحًا في حالة انتظار، لم يتردد، وبادره بالسلام، ثم سأله عن صاحب المزرعة “أبا نعمة”، ورغبته في لقائه. وبعد أن ردّ عليه التحية، رحّب به قائلًا: “أبا نعمة في انتظارك”، وقاده إليه.
لم يكن هناك وقت ليتأمل جمال البستان وترتيبه، ولكنه حتمًا لفت نظره كثافة ونوعية الأشجار، ونظم شبكة المياه التي ينساب فيها جداول وقنوات ري من المياه النقية. كانت المزرعة كبيرة نسبيًا، والطرق الترابية مستوية بشكل جيد، حتى ليُخيّل للمرء وكأنها مرصوفة بمادة ترابية خاصة.
لم يطل به الوقت ليعبر الطريق، حيث وجد نفسه في عريش بسيط ولكنه مبنيّ بشكل احترافي من خشب أشجار محلية، اختير له موقعٌ مميز فوق تقاطع جدولين من الماء الصافي يمران من تحته مباشرة. يحيط بالعريش كراسي طولية يتسع كل واحد منها لأربعة أشخاص، مفروشة ببسط كشميرية، وفي الوسط ارتكنت طاولة كبيرة مشغولة محليًا، وعليها دلال قهوة، وتمور في صحن معدني نظيف، وتوسطت الطاولة حوض بسيط وبه أزهار وورود مقطوفة للتو من البستان.
عندما جلس على أحد المقاعد للحظات، حينها رأى التاجر قادمًا، متكئًا على عكاز خشبي، وصحته كانت أفضل مما كان عليه. كان مرتديًا ثوبًا أبيض نظيفًا، يُضفي عليه مظهرًا جديدًا، بلحية خفيفة مرتبة، وعينين بدتا واسعتين تلمعان بالدفء، وبشرة صافية تميل إلى الاصفرار قليلًا. حدّق في ضيفه، وسرعان ما انفرجت ابتسامة عريضة حينما عرفه، مرحبًا بصوت قوي، وقبل أن يقترب منه أكثر، قال له بصوته الرخيم:
– مهلاً يا صديقي، أريد وقبل كل شيء أن أعتذر إليك عمّا بدر مني في لقائنا الأول. فقد أخبرتك كذبًا بإصابتي بمرض جلدي معدٍ، والحقيقة أنني لم أرغب في احتضانك تلك المرة لعدم نظافتي، وقلة اهتمامي بنفسي، وباختصار لم أكن أرغب في نقل رائحتي الكريهة إليك. أما الآن فقد تبدل كل شيء. تعال يا صديقي لأحتضنك، واطمئن إليّ، فأنا كلي محبة إليك.
احتضنا بعض احتضانًا حارًا، كأخوين لم يلتقيا من زمن بعيد. كانت الدموع تسيل ببطء من عيني التاجر، متأثرًا بلقاء صديق الطفولة الذي كان يشاركه ذكريات الشباب. سأل التاجر حاتم إذا كان يرغب في البدء في الحديث عن المنزل، فأجابه حاتم:
– لم يكن هدفي الأساس من وجودي شراء المنزل، ولكن لا بأس من أن يكون مدخلنا هذا الموضوع. وقبل الخوض فيه، أحببت أن أعرف سبب رغبتك في البيع، بالرغم من قولك لي حينما التقينا بتمسكك بالبيت الذي ورثته من والدك!
قال التاجر:
– سأكون صريحًا معك يا حاتم. لقد تغيّر الحال بسرعة، فالمال ليس السبب الوحيد لبيع البيت.
ثم سكت، وظهرت على وجهه علامات الحزن. وعندما طال الصمت، سأله حاتم:
– فما الذي يدفعك لبيع البيت إذًا؟ إذا كنت بحاجة للمال، سأفعل ما بوسعي لمساعدتك.
– شكرًا لك يا حاتم. الموضوع أكبر من ذلك بكثير، وأعتبرك الصديق الذي كنتُ ولا زلتُ أثق به. سأختصر عليك القصة، وأقول لك: لقد شوّه أصدقائي السابقون سمعتي بعد أن مكروا واحتالوا ونصبوا عليّ، وجعلوني على حافة الإفلاس. قالوا عني أشياء باطلة ونسبوا إليّ ما كانوا هم يفعلونه في وضح النهار، والنتيجة التي أصابتني أنا وعائلتي هي نظرات الاحتقار من سكان الحي، والكلام السيئ الذي نسمعه يوميًا من بعض الجهلة. فلم نعد نستطيع التحمل، لذلك قررنا هجران المنزل. ومما زاد الطين بلة ابتعاد أصدقاء ابني الصغير “رضا” عنه، ولم يبقَ منهم إلا قلة من أقربائه. وهذا مؤلم يا حاتم، شعرنا بالراحة بعد انتقالنا إلى المزرعة، وحتى صحتي بدأت تتحسن.
– هذا شيء مؤلم حقًا. لماذا يفعل الأصدقاء كل هذه الأفعال؟ أستغرب وأتعجب مما حدث لك يا أبا نعمة، أنت بحق تاجر كريم النفس ونظيف الكف.
– لم أعد أعتبرهم أصدقاء لي، بل كانوا مجموعة من الانتهازيين والمتربصين الذين استغلوا ثقتي. ورأس الأفعى “إبراهيم” الذي عمل بلا كلل على محاولة تحطيمي ماليًا وأخلاقيًا. فأنا قد أسأت إلى نفسي في السنوات الماضية، وقد دفعت ولا زلت أدفع فاتورة أخطائي، ولكنني لم أتسبب في أذية أحد. بل على العكس، فأنا – والله شهيد على ما أقول – من الذين بذلوا الكثير في مساعدة المحتاجين.
كان الحزن يُغالبه، والدموع كادت أن تنسكب من محاجرها، وأحس حاتم برعشات واضحة على وجهه ويديه، وقال له مداريًا:
– أنا أعرف معدنك الطيب يا أبا نعمة.
ساد الصمت لبضعة دقائق، وعندما هدأت عيناه، سأله حاتم من باب التحقق:
– أليس إبراهيم هذا الصديق الذي رافقك طوال فترة الشباب والرجولة؟ كنتما مضرب مثلٍ للصداقة ومثالاً يُحتذى به. ما الذي حدث يا تاجرنا العزيز لينقلب رأسًا على عقب؟
أجابه التاجر، والضيق يملأ عينيه، وكانت الكلمات تخرج متقطعة ومتلعثمة، لكنه استطاع أن يوصل الفكرة بجلاء عندما قال:
– لا أجد تفسيرًا سوى الخيانة، وحب الاستيلاء على مال الغير. وأضيف إلى ذلك سببًا آخر يكمن في شخصيته المتسمة بالجحود ونكران الجميل لليد التي امتدت إليه للمساعدة. وأود أن أخبرك يا حاتم عن حقيقة ذلك الشخص. عندما حاول الاستيلاء على هذه المزرعة استخدم وسائل ملتوية، ولولا تدخل زوجتي وأخيها اللذين وقفا بكل قوة في وجهه، لكان كل شيء قد ضاع. وأنا أعلم أنه حاول إقناعك بالدخول معه في مشروع لشراء الأراضي، وما المشروع الذي يخطط له إلا الاستيلاء على هذه المزرعة. يريدك أن تكون وسيطًا له في الشراء.
قال حاتم بلهجة غاضبة:
– صحيح أنني ذهبت إليه لأستوضح منه طريقة للمساعدة والوقوف بجانبك، وصحيح أيضًا أنه عرض علي الدخول في شراكات عقارية، ولكنني ابتسمت في وجهه استهزاءً، لأنني وبكل بساطة لست من الذين يتاجرون بالأراضي. ولكن لن يحدث أبدًا أن أضع يدي بيد تسرق أقرب أصدقائها! تبًّا وألف تبٍّ لمن يبيعون أصحابهم مقابل حفنة من المال.
فقال له التاجر معاتبًا نفسه:
– ظننتك في البداية أنك هنا لشراء المنزل لصالح إبراهيم، ليس لأنك متعاون معه، ولكن لأنك رجل طيب القلب، وعدم معرفتك بمكره وخداعه. ولكنني اطمأننت بالطبع من مجيئك، وأدركت أن ما كنت أظنه مجرد وهم. أتمنى أن تغفر لي ظنوني يا أخي حاتم.
لم يمهله تفكيره، فكان رده سريعًا عندما قال:
– لم آتِ إليك لشراء المنزل، بل لأقدّم خدماتي لصديقي التاجر، فأنت تستحق كل مساعدة. ما رأيك يا أبا نعمة؟ عندي أمل كبير في موافقتك!
– كنت أتمنى أن أستطيع الموافقة، ولكن للأسف لا يوجد وقت لذلك. لقد قررنا بيع هذا المنزل. ولن تسمح لي صحتي بترميم ما تم هدمه من علاقات. وأبنائي وزوجتي يرغبون في قطع الصلة بذلك الحي. لقد ذاقوا مرارة الاتهامات والظنون السيئة. يكفي أن يعيشوا بقية حياتهم في عزلة ومهانة. فإذا أردت مساعدتي حقًا، هذه ثلاثة تقييمات من ثلاثة مكاتب عقارية مختلفة. أعرض عليك أرخصها حبًا فيك وتقديرًا للصداقة التي مضى عليها عشرات السنين.
عصر حاتم أفكاره باحثًا عن فكرةٍ تثنيه عن إتمام الصفقة، وقال:
– كل الأماكن تصبح بائسة في فترة ما من الزمن، ثم تعود مرة أخرى إلى بريقها، ومنزلك الذي تنوي بيعه سيكون قريبًا منزلًا تسعد فيه أسرتك.
– بل أنا من يتمنى لك التوفيق في هذه الصفقة، لتعتبرها رمزًا للصداقة الصافية. ستخدمني كثيرًا إذا اشتريت هذا المنزل. ستعيد إليّ سمعتي وسيُدافع عن شرفي. وسيعرف الجميع في الحي أن من اشترى هذا المنزل هو أحد أصدقائي المخلصين.
– لا أستطيع رد طلبك يا أبا نعمة. سأدفع السعر الذي تطلبه للمنزل. ولكن أمهلني أسبوعًا من الوقت لكي أتدبر المبلغ.
– يمكنك دفع عربون للمنزل، وباقي المبلغ حين يتيسر.
– كل المبلغ سيكون جاهزًا على نهاية الأسبوع، سوف أتحصل على مدخراتي من الشركة في الموعد الذي حددته.
– سأحوّل هذا المنزل إلى متحف يخدم الأجيال الجديدة والقادمة، وسيكون لسمعتك مكانة خاصة في هذا المتحف.
قال التاجر بفرح عندما شعر أن موضوع الصفقة قد تم حسمه:
– وسيكون عقد البيع جاهزًا أيضًا. ستعيد إلينا الفرح والألق. لم أعرف لذة وطعمًا للصداقة والإخلاص مثلما أتذوقها الآن. كنا نضحك من وراء ظهرك عندما كنت تتحدث معنا عن المبادئ والقيم النبيلة، ونقول في أنفسنا: ماذا في جعبة الفيلسوف هذا اليوم؟ ولكن الأيام كشفت لي بعد حين أنني كنت جهلًا عظيمًا.
فقال حاتم بتواضع:
– كنت ولا زلت أفتخر بصداقتي النزيهة معك، أما بخصوص ما كنت أقوله في صدر الشباب، فلا أخفيك أنني كنت أضحك على نصائحي عندما كنت أختلي بنفسي.
لم تُدغدغ كلمات حاتم في مشاعره التي ظلّت جادّة، فقال بصوته الرخيم الهادئ:
– لم يكن كلامك يا أخي حاتم إلا دررًا وحكمًا لإنسان وعى قبل أوانه، حمل قلبًا كبيرًا لأصدقائه وجميع من حوله، وهو لا يزال فتى يافعًا. وهذا هو معدنك الأصيل حتى اليوم.
ضغط على يد حاتم بيدٍ هزيلة مرتعشة، وأوصله حتى البوابة، وقبل أن يغادر احتضنه حاتم قائلًا:
– انتظرني حتى نهاية الأسبوع، سننهي كل شيء في يوم واحد.



