نولد في هذه الحياة بين علاقات ليست من اختيارنا، ولا يمكن التنازل عنها بأي شكل من الأشكال حتى مع البُعد والقطيعة، تتجسد في علاقة الدم بدءًا من الوالدين وأبناء وبنات وأخوة، أخوال، وخالات، وأعمام وعمات، وجدات تمتد إلى أولادهم وفروعهم، هؤلاء تربطنا بهم صلة رحم، وقربة، أروعها عندما تمتزج فيها الألفة ومشاعر الإيثار التي تتجسد في الفعل قبل القول.
منذ صغري وأنا في حضن والديَّ، لمست منهما معنى محبة الأخ وكيف تمتد إلى أبنائهم، بغض النظر عما يكنه الآخر اتجاههما، عشت لأب له من الأشقاء أخ وأخت، وذكرى أخ متوفٍ خلّف ابنًا وحيدًا، وأم لها شقيق واحد، أدركت أن العلاقة مع الأخوة هي الحياة بأسمى معانيها، ومهما حدث بينهم لا بد أن يحوطها الحب الذي ينعكس على حب أبنائهم وبناتهم، وتتجلى في تذكر الأخ في كل شيء، وأقلها تقاسم نعمة الزاد، لم يفرق بينهم إرث بل كان عامل ترابط وحفظ محبة، والذي كان جليًا في حفظ أبي لحق ابن أخيه اليتيم بعد وفاة أبيه.
وانعكس ذلك على علاقتي بأخواتي الخمس، عشنا ست بنات بدون إخوة ومع ذلك مضينا على المودة التي تربينا عليها، بنسيان هفوات بعضنا، وأي سوء فهم بيننا يتلاشى كزبد البحر، اعتبرت أخواتي الخمس مثل أصابع يدي الخمسة، الذين لا يمكن الاستغناء عن إحداهن، وعند تعرض إحدانا لعارض أو سماع كلمة “أخ” نهبّ لها دون شعور، أصبحت أستضيء بمشورة أخواتي رغم اختلاف تجاربنا، لمست منهن القيام بدور الأم مع وجود أمي - حفظها الله - بيننا، والأخت، والصديقة، والأنيسة، حتى بتنا عند جميع من يعرفنا “أخوات أم ياسر” أو “جنوبيات”.
وفي أسرتي سعيت مع أولادي - حفظهم الله - منذ صغرهم أن أزرع بينهم هذا الشعور “الأمان الأخوي”، عاشوا شعور الأخوة منذ ولادتهم، وكون ولادتي البكر توأمًا، فقد وُلِدَا أخوان منذ بداية خلقتهم، بمعنى أنني لم أخض تجربة الابن الوحيد، إلى أن تجلت ثمار ذلك بين ناظري عندما غزا مرض السرطان “اللوكيميا” جسد أخيهم محمد، رأيتهم يتسابقون في تذليل التحديات التي نمر بها على المستوى الأسري، بين من يصاحب والده في طريق الرياض للزيارة مع بُعد المسافة، وارتباطهم بأعمالهم، وكذلك حفظ البيت، واجتماعهم فيه أيام تغيبنا عنه وكأننا موجودون، وتخطى ذلك في مبادرتهم في وهب حياة جديدة لأخيهم، وإقدامهم دون تردد على التبرع بالخلايا الجذعية، وحظي بذلك عبدالله بعد أن أظهرت نتائج التحاليل نسبة التطابق ١٠٠٪.
رحلة زراعة الخلايا الجذعية لمحمد كانت إجراءً وقائيًا لما بعد العلاج، لقطع طريق عودة المرض لجسد محمد بعد أن أنهك قوته وغير ملامحه على حد سواء، كانت بشائر النجاح تلوح لنا بين حديث ونقاشات الفريق الطبي؛ صغر عمر محمد وقدرته على تقبل الزراعة، التطابق كان بين الأنسجة وفصيلة الدم، مع ما يشهدونه من تكرار نجاح إجراء عملية المستشفى الذي يمتلك رعاية وخبرات طبية على مستوى المملكة والعالم.
كنت أردد عليه: “أنت بخير يا ولدي في حصن وضيافة ورحمة الله، عليك بالتمسك بالإيمان، فلطفه وكرمه، ورحمته على عباده لا حدود لها، مع ما يحوطنا من بركات أهل بيت النبي محمد وآله، تذكر يا ولدي أن المريض ضيف الله في ساحة الابتلاء الإلهي، ومن نعمه أن اختارك لتكون بطلًا تجاهد في أفضل الأيام، وأفضل الشهور، اختارك في شهور يُشد لها الرحال إلى مناجاة الله، وطلب البركات، شهور الوفادة لله بدأت مع شهر ذي الحجة وتبعته شهر محرم الحرام، شهر رفقة الإمام الحسين عليه السلام، سيكون اسمك يا محمد بين تلبيات وخطوات الحجاج، والزوار، وتيقن أنك ستنال البشارة بجلاء المرض بمشيئة الله”.
دخل المستشفى راضيًا لرحلة الزراعة يوم ٢٨ محرم ١٤٤٦هـ، كان يومًا متلفحًا بالحرارة الشديدة لشمس شهر يوليو، خرجنا متجهين إلى مركز الملك عبدالله للأورام وأمراض الكبد التابع لمستشفى الملك فيصل التخصصي ومراكز الأبحاث بالرياض، أصبح طريقه مألوفًا رغم طول المسافة، مضينا ونحن نفكر في مرحلة لا نعلم تفاصيلها.
وقرر محمد أن يمتطي صهوة سرير الألم طائعًا بعد تجربة علاج تجاوزت الشهر، وتكرارها من جديد مع العلاج الكيماوي، بما سيشهده من ألم يهز بدنه، في مدة تناهز الشهر، دخل المستشفى وهو لم ينس صراع الألم الذي كابده سابقًا نتيجة العلاج الكيماوي وحربه مع الخلايا السرطانية، متسلحًا بإيمان ثابت، ويقين أن رحمة الله وبركات أهل البيت عليه السلام لا حدود لها، استقبله الكادر الطبي والتمريضي الجديد، كانوا لا يختلفون عن سابقيهم في تأدية المهام المناطة لهم وإن اختلفت وجوههم.
جُدِّدت له التحاليل وظهرت تؤكد خلوه من الخلايا السرطانية وارتفاعًا ملحوظًا بمعدل ممتاز لجميع مكونات الدم، إلا أن خطة العلاج كانت مبنية على إعطائه العلاج الكيماوي مرة أخرى من أجل خفضها جميعًا لمعدلات التصفير تقريبًا، مع خفض مناعته تمهيدًا إلى تهيئة الجسم لعملية الخلايا الجذعية وهو ضعيف لكي يستقبل جسمه الخلايا الجديدة من عند عبدالله، ويتقبلها نتيجة غياب مناعته الذاتية.
وبدأت رحلة العلاج يوم الأحد ٢٨ محرم ١٤٤٦هـ، الموافق ٤ أغسطس ٢٠٢٤م، سبقه تهيئة نفسية لمحمد وكأنه فارس يستعد لنزول ساحة الحرب للقتال، دخلت علينا منسقة الزراعة حنان القاسم بقولها: كيف حالك يا محمد؟ هل أنت مستعد؟ يوم الزراعة سيكون تاريخ ميلادك الجديد، ثم وجهت خطابها لي؛ سيكون عندك بعد الزراعة أبناء توأم وإن اختلف عمرهما، أجبتها: بل سيكون عندي توأمان، قبلهم حسن وحسين توأم في ولادة واحدة، أردفت بقولها؛ جميل، الله يسعدكم جميعًا.
كشفت أن العلاج متعدد بين الجرعات الكيماوية والوقائية، إلى أن حانت ساعة الصفر يوم الزراعة، صادف يوم ٧ صفر، يومها كان يقيني أن أبنائي في ضيافة صاحب اليوم الإمام الحسن عليه السلام، كان يومًا حارًّا بحرارة شمس أيام أغسطس التي لا تخلو من الرطوبة الشديدة، جميع الأهل والمحبين يسألون: كيف تجري الأمور مع محمد وعبدالله؟ شعرت أنني أعيش يومًا تاريخيًا، حالة من الطمأنينة والراحة لا أعرف سببها، كنت أكلم الجميع بفرح، نعم بفرح رغم قلقهم الشديد علينا، كان جوابي لهم؛ نحن بخير في ساحة البلاء الإلهي، الله معنا، نحن في حرز وحصن صاحب اليوم، بركات النبي محمد وآل محمد صلى الله عليهم وسلم، معنا، يخال لي سماع دوي دعاء الموالين في المشاهد والمجالس الحسينية تنادي بطلب الشفاء لهم وإن كان صوتهم همسًا، فهو مسموع من أهل البيت عليهم السلام.
وتتابعت الأيام، لم تمضِ بضع ليالٍ إلا وتسلل الوجع إلى جسد محمد، كان بين حرارة، قيء، التهابات في الحلق، وإسهال تبعه التهاب شرجي كان يعجز حتى عن المشي، عدم القدرة على الأكل والشرب، حتى الدواء، تحوّل مغذي عن طريق الوريد، ومع ذلك حاولت أن لا ينقطع صوت الجوال بتلاوة القرآن، والدعاء، والزيارة، والمعصومون لا تغيب أسماؤهم من بين جدران الغرفة، وعند قوله: “أنا تعبان يا أماه”، أجيبه: ستكون بخير، فترة وتعدي، تذكر عليل كربلاء الإمام زين العابدين، كن مع الله، يكن معنا يا ولدي.
في ليلة ١٧ صفر، كان صراع من أجل الحياة، ألم يصحبه ارتفاع حرارة لا تفتر عن جسده، وقتها لم يكن أمامنا إلا أن أطرق باب الحوائج الإمام موسى بن جعفر، الدعاء لله والتوسل بالدمعة ولوعة الفاقد، والتائه عن طريقه، طلبت من المحبين مشاركتنا الدعاء، ومع شروق الشمس أفاق محمد من نومه صباحًا بقوله: أماه، أشعر اليوم أني أستطيع بلع ريقي، وأن حلقي مع الألم بدأت أشعر به، مباشرة كان ردي: هذه بشائر الخير والبركات يا ولدي، إنها بركات ضامن الجنة، بداية للشفاء، وبعدها خلال يومين أصبح يستسيغ الطعام نوعًا، حتى لو بعض اللقيمات.
ومضى على الألم الذي لم يبارحه بين شدة وضعف، حاولت بكل ما أملك أن أجمع قواي وأصراري: يجب أن تأكل، وتستجيب للعلاج، فكر أنها فترة وتمضي، لا بد أن تنتصر، اعتبر نفسك في حرب، إما أن تنتصر أو يُنتصر عليك، كلنا معك، ستكون بخير، كان يضمد جراحه بصوت كتاب الله، وأدعية أهل البيت، والشعور بأنه بخير، جملة “الحمد لله” لم تغب عنه، كل من يسأل عنه، يجيبهم: الحمد لله.
في يوم الجمعة ١٨ صفر، لم يكن أفضل من الأيام التي تسبقه، كان يومًا مثقلًا بالألم، تغيرت الاستعدادات الطبية بزيارة وملاحظات أطباء العناية المركزة لحالته، مع زيادة التحاليل، والأشعة، والمراقبة كل نصف ساعة لعلاماته الحيوية التي كانت تتأرجح، الضغط بين الانخفاض والثبات، وارتفاع الحرارة، لم يستطع الجلوس لأداء الصلاة، زاره أبوه وأخوه حسن في محاولة لتخفيف عنه وصرف شعوره عن الألم المتراكم داخله، خرجوا وهم يرجون سماع خبر: “الحرارة غادرت محمد في أسرع وقت”، ومع ذلك كنت أكرر على مسامعه: أنت في حضرة صاحب هذا اليوم، ستكون بخير.
وعند الساعة ١٠ مساءً يوم الجمعة، أخذ يجمع قواه، شرع في الصلاة وهو مستلقٍ على ظهره، توضأ وهو جالس على السرير، صلى المغرب والعشاء، وتبعهما بالظهر والعصر قضاء، بعد الساعة ١١ انتقل لشعور آخر، انخفضت الحرارة نوعًا ما، بعدها طلب الاتصال بوالده، مع توقع وصوله القطيف، أجابه أبي: اطمئن، الحمد لله لقد تلاشت الحرارة، أين أنت، مع أعمامي؟ ليلتها كان في الاجتماع الأسبوعي لأعمامه، طلب تحويل المكالمة إلى فيديو، تناقل أعمامه الجوال بينهم وبين أولادهم وعماته، الكل يحادثه ويسأل: كيف صحتك محمد؟ وأخالهم في حيرة واستغراب من تغير ملامحه التي تبدلت في أقل من شهر وكأنه شخص آخر، كان يجيب بصوت المقاتل: أنا بخير، برجع لكم قريبًا، ما هو العشاء الليلة؟
في يوم ١٩ صفر، بدأ يتعايش مع الألم كعادته، على أمل انتظار بوادر تغير في تفاصيله، كان تعقيب الأطباء على وضعه الصحي: بأنه أمر طبيعي، وما هذا إلا أحد المضاعفات المصاحبة بعد العلاج الكيماوي وليس زراعة النخاع، وقبل غياب شمس ذلك اليوم، كانت أنفاس وأصوات الناس تستعد لإحياء أربعينية الإمام الحسين عليه السلام، حلت لنا بشائر الشفاء بعدم حاجته لمتابعة من قسم العناية المركزة، وأبلغتنا الممرضة بتغير طفيف في ارتفاع مستوى المناعة، وليلتها عمّ الهدوء الغرفة، نام محمد نومًا طويلًا وأفاق الفجر، وطلب أداء الصلاة، سألته: أين تريد، على السرير جلوس أم مستلقٍ؟ أجاب: أريد الصلاة وأنا جالس على الكرسي، وهل تستطيع؟ نعم أستطيع، الحمد لله، أشعر أني بخير، وفي وقت الإفطار طلب أكل بعض اللقمات من الخبز.
وعلى عادتهم جاء الفريق الطبي بقيادة الدكتور منصور الفايز: كيف حالك يا محمد؟ الأطباء يقولون إن مناعتك في ارتفاع ملحوظ، والتحاليل تؤكد نجاح عملية الزراعة، وتجاوز مرحلة الخطر، استعد يا بطل، سيكون خروجك بعد ثلاثة أيام، بشرط الإقامة في الرياض لفترة المتابعة الطبية لما بعد الشفاء، عندها لم أتمالك نفسي، باحتضان الطبيبة، والقول بصوت باكٍ: ببركة الصلاة على محمد وآل محمد، وعقب خروجهم، بشرت المحبين: نال محمد الشفاء بفضل من الله، البركة والبشرى من النبي محمد وآل محمد وأهل بيته، والإمام الحسين عليهم الصلاة والسلام، هم معنا.



