30 , يونيو 2025

القطيف اليوم

زوبعة الطفولة.. «عرامة» نبوغ أم نكبة؟

ما من بيت إلا وقد مرّ فيه طفلٌ عرام، يبعثر الأشياء، ويصنع من الفوضى احتفالًا صغيرًا لا يفهمه الكبار، يركض كأن العالم ضيّق، و"يتشقلب" على الكنبات كأنه يؤدي عرضًا بهلوانيًا لجمهور وهمي، يصرخ لأتفه سبب، ويضحك لأغرب نكتة، ثم فجأة يهدأ وينام كأن شيئًا لم يكن. هذه ليست فوضى، وليست شراسة، إنها «عرامة» الطفولة، المزيج الغريب بين عبقرية غير مشذّبة وجنّية عبث تسكن في عيون الأولاد.

لكن المثير، أن بعض هذه «العرامة» لم تذب مع الوقت، بل تجمّعت، ونمت، وتحوّلت من صفة في طفل إلى عنوان لشِلل كانت تجوب الأحياء وكأنها قبائل رحّالة بلا بوصلة. كان يكفي أن يُقال عن أحدهم “من زمرة الزوابع”، حتى تُفهم المعادلة فورًا دون شرح: ضجيج، بهلوانية، وربما بعض الشقاوة التي تميل للفظاظة. لا نتحدث هنا عن الأذى، بل عن تلك التراكمات التي تبدأ بمزحة وتكبر ككرة ثلج في شارع القديح أو مدرسة ابتدائية مجاورة.

“زمرة الزوابع” لم تكن كيانًا حقيقيًا، بل أقرب إلى أيقونة مجازية تجمع صفات متفرقة: الذكاء الطائش، الطرافة الفجّة، الجرأة المفرطة، وربما قليل من البلاء المحبب أحيانًا والمزعج كثيرًا. تتذكرهم الآن؟ نعم، أولئك الذين ما إن دخلوا صفًا حتى انقلب نظام الحصة، وصار المعلم يرفع سبابته أكثر مما يرفع قلمه.

لكن لحظة.. من قال إن هؤلاء بلا مستقبل؟

في أحد أيام المدرسة، رأيت أحد هؤلاء وقد جاء لزيارة معلمه القديم. كان يرتدي ثوبًا أنيقًا، تفوح منه رائحة طيب فخم، يسير بثقة لا تشبه وقفته المرتبكة خلف الباب يومًا ما حين ضُبط وهو يرسم شنبًا على صورة معلقة. سألته بدهشة: أنت؟! قال وهو يضحك: “إيه.. أنا اللي كنت أزوّر توقيع أبوي في دفتر الواجبات.. بس صرت محامي!”. ضحكنا طويلًا، ثم أدركتُ أن “العرامة” في صغرها ليست دائمًا نذير شؤم، بل أحيانًا تكون بذرة روح لا تقبل بالجمود، تبحث عن طريقة للحياة تختلف عن النصوص.

الطفل الذي يضج بالحركة، قد يكبر ليصير قائدًا ميدانيًا، أو مبدعًا لا يطيق الجدران، أو حتى فنانًا يرسم العالم بيده لا بعين الآخرين. المهم فقط: كيف يُصقل، ومتى يتعلّم أن يزن حركته بميزان الحكمة، لا أن يُقمع حتى ينطفئ.

كنا نظن أن الهدوء هو معيار النضج، والالتزام الصارم دليل على النجابة. لكن هناك نجابة لا تعلن عن نفسها مبكرًا، تختبئ تحت ضجيج الكركبة، وتظهر فجأة حين تناديها الحياة بفرصتها الأولى. وبعض أولئك الذين كانوا في زمرة الزوابع صاروا اليوم آباء متزنين، ناجحين، وربما يبتسمون كلما رأوا أبناءهم يعيدون الكرة.

ولا أُخفيكم سرًا، هناك آخرون ضاعت منهم العرامة في لحظة حرجة، لم يمسك بها أحد، لم يرشدها أحد، فتحولت من طرافة إلى تهوّر، ومن ذكاء متحرك إلى ضياع ثابت. هنا، تقع مسؤولية المجتمع: أن يفرّق بين طفل يحتاج مساحة، وآخر يحتاج ضابطًا، وأن يعرف أن كل ضجة ليست تهديدًا، بل قد تكون طلبَ احتضانٍ لا يُقال بالكلام.

لذلك، حين نسمع صراخًا في فناء المدرسة، أو نرى صبيًا يركض بلا هدف واضح، فلنأخذ نفسًا طويلًا ونحاول أن نسمع ما بين الضجيج: هل هذه مجرد عرامة طفل؟ أم نداء ليد ترشده؟ الفرق شاسع، والخطأ في القراءة قد يجعل من «زوبعة» صغيرة ضحية أو صانع مستقبل.

في النهاية، لا تسخروا من ذلك الطفل الذي يعيد ترتيب الكراسي في المسجد، أو يرسم على جدار المدرسة، أو يطلق على نفسه اسمًا غريبًا يدل على قوة خارقة. ربما سيكون يومًا ما، حديث مجتمع بأكمله، لا بسوئه، بل بإبداعه الذي لم يفهمه أحد حين كان صغيرًا… سوى قلب والدته، وذاكرة قديمة تسميه – بشيء من المحبة والفوضى – «زوبعة».


error: المحتوي محمي