
انطلقت عمليات تسكين خلايا النحل في غابات المانجروف الممتدة على سواحل خليج تاروت، من سيهات مرورًا بتاروت وصفوى وصولًا إلى رأس تنورة، إيذانًا ببدء موسم عسل المانجروف لعام 2025.
وعلى وقع خطى النحالين في الظلام، بدأت الصناديق الخشبية الثقيلة تأخذ مكانها بهدوء في أحضان الطبيعة الساحلية، لم تكن مجرد عملية نقل، بل طقس سنوي يعيد الحياة إلى المكان، حيث باشر أكثر من سبعة نحالين تسكين خلاياهم ليلاً، مستغلين سكون النحل داخل الخليّة، حيث يكون في النهار منشغلاً بجولات البحث عن الزهور.
كان الليل يلف المكان، والأضواء اليدوية تتنقل بين الخلايا بهدوء، كأنها مصابيح صغيرة تشق عتمة المراعي نحو بداية موسم جديد، وعلى حافة الفجر، كانت آخر خلية توضع في مكانها، بينما يبدأ الأفق يشتعل بضوء باهت، يرافقه زقزقة طيور البحر. وتزامن هذا النشاط مع بداية تفتح أزهار المانجروف، التي تُعد من أغنى مصادر الرحيق وأكثرها جودة.
وكانت وزارة البيئة والمياه والزراعة، قد أعلنت عبر فرعها في المنطقة الشرقية، أن هذا الموسم يدخل ضمن النسخة الخامسة من مبادرة إنتاج عسل المانجروف، والتي تهدف إلى تعزيز الاستفادة من الموارد الساحلية المتجددة وتنمية قطاع العسل المحلي.
ويؤكد النحالون أن أشجار المانجروف تزهر في توقيت مثالي، يتزامن مع شح في بعض المحاصيل الزراعية الأخرى بسبب الظروف المناخية، مما يجعلها ملاذًا طبيعيًا نادرًا للنحل، ويُنتظر أن تُنتج الخلايا الموضوعة في هذه البيئة عسلًا نقيًا بطبيعته، مستمدًا من زهرة لا تمسها مبيدات ولا أسمدة.
ويقول أحد النحالين الذين شاركوا في التسكين: “العمل يبدأ بعد المغرب ولا يتوقف إلا بعد بزوغ الخيط الأول من الفجر، إنها مهمة دقيقة، فالنحل يجب أن ينقل دون أن يُستفز، والخلايا تُثبت بترتيب دقيق في مواقع محددة داخل الغابة”.
وكانت الوزارة شدّدت على أهمية إشراك الشباب في هذه المبادرات البيئية، بوصفها رافدًا تنمويًا يدمج بين الزراعة والاقتصاد الأخضر، موضحة أن المبادرة لا تقتصر على إنتاج العسل، بل تشمل مشتقاته من منتجات تحويلية، مع إمكانية مضاعفة إنتاج الخلية الواحدة مقارنة بالمراعي التقليدية.
وسبق أن دشّن مكتب الزراعة بمحافظة القطيف أول منحل رسمي في غابات المانجروف بجزيرة تاروت عام 1442هـ، ليُشكّل بداية لتجربة وطنية طموحة تجمع بين الحفاظ على التنوع البيولوجي وتنمية منتجات النحل، بالتنسيق مع الجهات المعنية.
وتُعد غابات المانجروف منظومة بيئية متكاملة تُسهم في حماية السواحل وتوفير بيئة آمنة للطيور والأسماك والكائنات الدقيقة، مما يعزز التوازن الطبيعي ويحافظ على التراث البيئي لسواحل المملكة المطلة على الخليج العربي.
وفي ظل انطلاق الموسم، يعود الحديث عن التباين بين أنواع العسل التي تنتجها بيئات المملكة، وتحديدًا مقارنة بين عسل المانجروف وعسل السدر، دون أن تكون المقارنة للمفاضلة، بل لإبراز فرادة كل نوع في سياقه الطبيعي والبيئي.
ويبدو عسل المانجروف كأنه كتلة ضوء مضغوط، بلونٍ كهرماني فريد يتدرج بين الذهبي الداكن والعنبر المشوب بالبني، يحتفظ بقوامه المتماسك عند التحريك، ويستقر في الملعقة كما لو أنه جزء من نسيج نباتي حي.
ويفتح الغطاء، فلا تسيل منه قطرة، بل يبقى ثابتًا، متماسكًا، وكأن كل ملعقة منه تحفظ أثر الطبيعة التي أنتجته، هذه الكثافة ليست فقط مظهرًا بصريًا، بل انعكاس مباشر لمكونات الرحيق المجمّع من غابات الساحل.
أما عسل السدر، فيتميز بلونه الفاتح وشفافيته العالية، ينساب بسلاسة في العبوة وتدل على تركيبته الزهرية البرية، ويتميّز بخفة قوامه ورائحته العطرية التي لا تخفى على عشاق هذا العسل المعروف بتاريخه.
وتكشف الفروق الفيزيائية بين العسلين اختلاف البيئتين المنتجتين لهما، حيث يُستخرج عسل المانجروف من أزهار تنمو على المياه المالحة، بينما يأتي عسل السدر من مناطق جبلية أو صحراوية، أو بيئة زراعية تقليدية.
ويمثل كل نوعٍ من العسلين انعكاسًا لمحيطه الطبيعي، أحدهما يتغذى من البحر والملوحة، والآخر من الجبال والبراري والمزارع، وهذا التنوع يمنح كل عسل شخصية خاصة ومذاقًا فريدًا، دون أن يتفوق أحدهما على الآخر بل يكملانه في لوحة العسل السعودي.
وتُعد مبادرة إنتاج عسل المانجروف إحدى النماذج النوعية ضمن توجهات المملكة في رؤية 2030 لدعم القطاعات غير النفطية وتحقيق الأمن الغذائي، مع فتح آفاق اقتصادية مستدامة تعزز دور المجتمع المحلي في التنمية البيئية.