13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

من الغوري إلى الركوة.. حين يغير الذوق فنجانه

بعض التبديلات في حياتنا لا تحدث لأن ما نملكه سيئ، بل لأنها لحظة ذوقية خالصة، تشبه مزاجًا قرر أن يرتدي عباءة جديدة فقط، لا لأن القديمة تمزقت، بل لأن المزاج أراد أن يرقص رقصة أخرى.

في إحدى جلسات التأمل العفوي بيني وبين أحد الأصدقاء -وهو من تلك الأرواح الساخرة التي تُشعل الجدية بعود ثقاب ضحكة- قال لي: “استبدلنا الشاي بالقهوة، الغوري صحيح كان نضيفًا من الداخل، لكنه قذر من الخارج، والركوة لمّاعة! والقهوة، أمّ الزين والدلال”.

ضحكنا، لكنني تأملت عمق هذه النكتة، وسرعان ما أدركت أن وراءها رمزية ثقيلة تغلفها خفة دم خادعة.

هذه ليست مجرد قصة انتقال من مشروب إلى آخر، ولا علاقة لها بتفضيل نكهة على نكهة، بل هي صورة مصغرة لتحولاتنا نحن، في ذوقنا، في تفضيلاتنا، في مزاجنا الداخلي، بل حتى في اختياراتنا المجتمعية والعاطفية. كم مرة غيرنا المذاق، لا لأن المذاق الأول كان سيئًا، بل لأن العين شبعت منظره؟ لأن الشعور داخليًا نضج، أو تغيّر، أو حتى تمرّد؟

الغوري -ذالك الإناء الشعبي العتيق- لا يرمز هنا فقط إلى الشاي، بل إلى حالةٍ كنا نرضى بها، نألفها، نُجَمّلها من الداخل، ونغض الطرف عن مظهرها المتشقّق الخارجي. قد يكون الغوري رمزًا لرفقة قديمة، لعلاقة، لفكرة، لذائقة زمنية كنّا نُحبها “رغم كل شيء”، فقط لأنها كانت معنا حين لم يكن أحد. وربما الشاي رمز لشيء نعرف طعمه، نكرره، نحبه لأننا اعتدناه، لا لأنه الأفضل.

ثم فجأة، تظهر الركوة، نظيفة، براقة، تُغريك حتى قبل أن تبدأ بالتحضير. تقدم لك نفسها بثقة ودون ماضٍ. تقول لك: “أنا هنا لأدللك، لأجعلك تتذوق الحياة بطريقة مختلفة، ليس لأن الماضي قبيح، بل لأن المستقبل أرقى”.

وهكذا، دون خصومة، ودون ندم، نستبدل العادة بالذوق، والماضي بالحالة، والغوري بالركوة، لأننا لم نعد نحن أنفسنا كما كنا.

وبين كل رشفة شاي ورشفة قهوة، تقف الحياة تمزج النكهتين معًا، تبتسم وتهمس: “كل ما في الأمر أنك كبرت، ونضجت، وقررت أن تستمتع باللحظة لا بالعادة”.

الفكرة هنا ليست هجاءً للشاي ولا مدحًا للقهوة، ولا مقارنة بين الغوري والركوة، بل تأمل في كيف يتجدد الإنسان. كيف تتغير ذائقته ليس لأنه ناكر للجميل، بل لأنه كائن شعوري أولًا، يحترم حواسه، ويحتفي بمزاجه، ويؤمن أن الداخل الطيّب لا يشفع دومًا لقِدْرٍ أعيته القذارة الظاهرة.

وفي الواقع، بعض العلاقات والأماكن وحتى الأفكار تشبه ذلك الغوري، قد تكون طاهرة في جوهرها، لكنها مرهقة في شكلها، متعبة في تكرارها، مربكة في مظاهرها. في المقابل، هناك من يظهرون في حياتك كـ”ركوة”، جميلة من اللحظة الأولى، وتعدك بدفء خالٍ من التشققات. فيهم فنّ التقديم، ولباقة التوقيت، وأناقة التفاصيل.

يا سادة، لسنا مجبرين على شرب الشاي في كل مرة نبحث فيها عن الدفء، تمامًا كما لسنا خونة إذا عشقنا القهوة بعد سنوات من الوفاء للشاي. الأمر أرقى من أن يُفسر بالخيانة أو التنكر، وأبسط من أن يُختصر بالذوق، إنه إعادة تعريف للرضا، وتوسيع لحدود التذوق.

ولعل أصدق ما قيل في لحظات كهذه: لا تحكم على من يغير فنجانه، لعله فقط قرر أن يكرم ذائقته بعد طول صبر.

وبين القهوة والشاي، لا تهم الركوة ولا الغوري، بل أنت، وحقك في أن تختار ما يبهجك، لا ما اعتدت عليه فقط.

كل فنجان جديد، تجربة حياة.


error: المحتوي محمي