13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

ملل ملل ملل 

“ملل، كلمة نسمعها بين الحين والآخر، يردّدها الصغار والكبار على حدّ سواء، وكأنها تلخيص لحالة داخلية يصعب شرحها. لكن الملل ليس مجرد لحظة فراغ عابرة، ولا هو شعور مؤقت ناتج عن قلة الانشغال، بل هو حالة نفسية متسلّلة، قد تنفذ إلى الأعماق دون سابق إنذار، لتحوّل الإنسان إلى كائن فاقد للحماسة، ينظر إلى الحياة من نافذة رمادية، تتكرر فيها الأيام بلا دهشة أو هدف.

ورغم بساطة الكلمة، فإن أثرها عميق، إذ قد تكون جرس إنذار لخلل داخلي يحتاج إلى انتباه لا إلى تجاهل. فبحسب علماء النفس، لا يقتصر الملل على عمر أو طبقة اجتماعية، ولا يُعدّ مرضًا بالمعنى السريري، بل هو انعكاس لحالة من القلق أو الاضطراب النفسي، يظهر غالبًا في صورة شعور مزمن بالضيق والرتابة وغياب الحافز. وعندها، يتباطأ الزمن، وتفقد الأشياء لمعانها، مهما بدت براقة في ظاهرها.

تتعدد أسباب الملل، لكن أبرزها تكرار الروتين وغياب التحديات، أو فقدان المعنى في التفاصيل اليومية. وقد يكون ناتجًا عن تراكم مشاعر العزلة أو الإحباط، أو الشعور بعدم التقدير. وتشير الدراسات إلى أن استمرار هذا الشعور لفترات طويلة يرتبط بانخفاض جودة الحياة، وزيادة التوتر والإجهاد الذهني.

ويأخذ الملل صورًا مختلفة؛ منه المؤقت، الذي يزول مع أول انشغال مفيد، ومنه المزمن أو “الوجودي”، وهو الأخطر، حيث يفقد الإنسان إحساسه بجدوى ما يفعله، وتغيب الغاية، ويغدو كل شيء بلا طعم. 

وهنا تبرز دلالة قول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون: 115)، لتذكّرنا أن غياب الشعور بالهدف قد يجرّ الإنسان إلى التيه والضياع، ويجعل تفاصيل الحياة عبثًا لا يُطاق.

وفي الهدي النبوي الشريف، يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ»، وهو تحذير من الاستسلام للفراغ، الذي إن لم يُستثمر تحوّل إلى بوابة للضياع النفسي. فالإسلام لا يُجرّم الملل كحالة إنسانية، لكنه يدعو إلى مواجهته بالفعل والإنتاج وتنظيم الوقت، وربط النفس بخالقها وبمعنى الحياة. ويقول صلى الله عليه وآله: «إن الدين يُسر، ولن يُشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا»، وهي دعوة صريحة للتوازن، بعيدًا عن الإفراط الذي يولّد السأم أو الانهيار.

وأولى خطوات العلاج هي الاعتراف. كثيرون يشعرون بالملل لكنهم ينكرونه، خشية أن يُفسّر كضعف. بينما هو في جوهره رسالة خفية تقول: “ثمّة شيء بحاجة إلى التغيير”. وهذا الوعي هو البداية الحقيقية للتحوّل.

أما الخروج من هذه الدائرة، فليس بحاجة إلى قفزات كبيرة، بل إلى خطوات صغيرة متواصلة: كسر الروتين، إعادة اكتشاف الهوايات، البحث عن تحديات جديدة، وتحسين الروابط الاجتماعية. فالتفاعل مع أشخاص إيجابيين يمنح الإنسان طاقة متجددة، ويعيد ربطه بالحياة من حوله.
وفي أحيان أخرى، يكون الملل رسالة من الداخل، لا من المحيط. وهنا تظهر الحاجة إلى التأمل والخلوة، والعودة إلى الذات والروح والقراءة والذكر، وكل ما يعيد ترتيب الداخل ويغذّي الروح بالمعنى.

إن الملل، في حقيقته، ليس خصمًا ينبغي الهروب منه، بل فرصة لفهم الذات. لحظة صدق تقول لنا: “توقّف، راجع، وأعد التوجيه.” فاستمع لهذه الهمسة جيدًا… فقد تكون بداية حياة أكثر إشراقًا وامتلاء. فقط قرّر أن تبدأ.


error: المحتوي محمي