
الفارق بينهما أكثر من ثلاثين عامًا، والمسافة بينهما ممتدة من منطقة "المشاري" إلى بلدة "القديح"، ولا علاقة دم تربطهما، غير أن "التضحية" خلقت رابطة جديدة بين الشاب علي حسن إبراهيم آل شيف، والطفلة رقية فاضل الحصار؛ رابطة يمكننا أن نسميها رابطة أبوة، والأبوة في حكايتهما معقودة بـ"كلية".
الطفلة التي قضت أكثر سنوات طفولتها المقتربة من السبع، على أسِرَّة المستشفيات، وحبيسة جدرانها، أو بين آلام المرض وأوجاع الغسيل، كتب الله لها خلاصًا على يد صديق والدها، بعد أن قرر إنهاء معاناتها بكليته.
ولادة الألم
ولدت حكاية رقية بعد ولادتها بأربعة أشهر فقط، وقد كانت البداية مجرد إنفلونزا، لكن حين استمرت أعراضها توجه بها والدها إلى مستشفى القطيف المركزي، وأخضعت لعدد كبير من التحاليل والفحوصات، عندها أكدت النتيجة بأنها تعاني من بروتين في البول وارتفاع ضغط الدم، كما أن لديها تجمع سوائل.
تسترجع والدتها وديعة إبراهيم الحصار تلك الذكريات المؤلمة قائلة: "توجب بعدها تنويم رقية في المستشفى، لتخضع للعلاج حتى يتم تشخيصها، وقد شخصت حالتها الدكتورة صباح الصناع بأنها مصابة بمتلازمة كلوية، ومررنا بعدها بعدة علاجات إلى أن أخبرت طبيبتها بأن لديها تليفًا في كبيبات الكلى وأن مرضها نهايته فشل كلوي، وستحتاج بعدها للزراعة، وهذا ما حدث بالفعل حين بلغت الرابعة من عمرها".
العائلة مرفوضة.. ووسائل التواصل تبحث عن متبرع
حاولت عائلة "الحصار" أن تفتدي طفلتها بكلية أحد أفرادها، لكن رغبتهم تلك اصطدمت بحواجز عدم التوافق أو الرفض لأسباب صحية، فما كان من طريق أمامهم غير البحث عن متبرع من أهل الخير، فبدأوا نشر قصتها على وسائل التواصل الاجتماعي، وصحيفة «القطيف اليوم».
بعد عدة أشهرٍ من البحث عن متبرع، ومع تكرار نشر قصتها، طرق أبواب قلوب عائلتها بريق أمل؛ متبرع غريب قريب، إنه صديق أبيها ومن يحتل في نفسه موقع الأخ لا سيما أن صداقتهما امتدت لقرابة خمسة عشر عامًا.
تقول والدتها: "بعد أن أمضيت معها 6 أشهر وأنا أرى طفولتها مقيدة بأنابيب الغسيل الكلوي، كنت أبتهل إلى الله أن يخلصها من كل هذا الوجع، وقد حظينا بعد انتشار قصتها بالعديد ممن أبدوا رغبتهم في التبرع، غير أن تلك الرغبات لم تكن تكتمل لأسباب صحية مختلفة".
وتضيف: "بعدها فوجئنا بصديق زوجي وهو يعرض تبرعه لابنتنا بكليته، عندها شعرت بأن خيوط الأمل تتسلل إلى قلبي، كنت فرحةً بمبادرته وفي نفس الوقت كنت متخوفة من النتائج، إلى أن شاء الله أن تكتمل فرحتنا بقبوله".
نصف الحكاية عند "علي"
علي آل شيف، شاب في الثامنة والثلاثين من عمره، أب لثلاثة أطفال، لم يكن بينه وبين قرار التبرع سابق تفكير، غير أنه حين تكرر أمامه الإعلان عن حاجة ابنة صديقه لمتبرع اتخذ قراره بأن يكون هو.
يقول لـ«القطيف اليوم»: لما قرأت عن حاجة "رقية" لمتبرع، تساءلت في نفسي؛ ماذا لو كانت ابنتي -لا سمح الله- هي من قدر لها هذا الأمر، هل كنت سأجد متبرعًا لها، وكنت أضع نفسي مكان والديها عندها اتخدت قرارًا وعاهدت نفسي أنه قرار لا رجعة فيه".
العائلة والزوجة سند
بعد اتخاذ قراره عرض "آل شيف" هذا القرار على عائلته، وقد قوبل قراره بالتأييد منهم، مبينًا أن ردة فعلهم كانت تتسم بالتشجيع، ودفعه بقوة للمبادرة في هذا القرار.
وأشار إلى دور زوجته، الذي لم يختلف عن دور عائلته، مبينًا أنها كانت سندًا له في كل خطوة منذ بدء القرار، حتى انتهاء العملية، وفترة التشافي.
كسر حاجز الوزن وبتر التدخين
توجه علي إلى مستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام، وعند إجراء الفحوصات والتحاليل، تبين له أنه لا بد أن يخسر من وزنه ما لا يقل عن 3 كجم، كما أنه لا بد أن يقطع التدخين، فما كان منه إلا اتباع حمية أسهمت في خسارته ثمانية كيلو جرامات بدل الثلاثة، كما أقلع عن التدخين نهائيًا حتى يصل لهدفه الإنساني.
لقاء عند غرفة العمليات
انتهى مشوار الفحوصات، وانتهت رحلة إنقاص الوزن والتعافي من التدخين، ووصل الاثنان إلى غرفة العمليات، وهنا لا بد من مزاورة الخوف للنفس كأي بشر طبيعي.
يقول علي: "لم أتخوف مطلقًا منذ اتخذت قراري، لكن حين نقلوني على السرير لإدخالي إلى غرفة العمليات ساورني خوف بسيط كأي شخص طبيعي يفكر في إجراء عملية، وحتى أطرد قلقي طلبت منهم أن ألتقي برقية، وحين التقيتها شعرت بشعور جميل جدًا، وكأنها أنزلت السكينة والهدوء والطمأنينة على صدري وهي تنظر لي بكل خجل، وتبدلت مشاعري إلى فرحة لا يمكن تصورها أو وصفها".
وانتهت العملية قبل قرابة أسبوعين، وبدأت علاقة جديدة فهو أضاف لابنتيه وابنه ابنةً جديدة افتداها بجزء منه، وهي اكتسبت أبًا مع أبيها، أبًا أنجبته الصداقة الحقيقية التي طال عمرها لخمسة عشر عامًا، أي ضعف عمرها الندي بل أكثر.
في بيت الحصار.. ميلاد جديد.. ومشاعر
يبتهج صوت والدتها وديعة وهي تسترجع لحظة ظهور النتائج، وتقول: "بعد شهرين من انتظار النتيجة، وفي هلال شهر رمضان جاءتنا البشرى بالتطابق، في هذا اليوم شعرتُ بأنني أنجبت رقية من جديد، وأنه يوم ميلاد آخر لابنتي".
وإن كان هذا شعورها عند ظهور النتائج، فإن شعورها بعد نجاح العملية كان فرحًا مضاعفًا، تعبر عن ذلك بقولها: "يكفيني أن أرى وجه ابنتي طبيعيًا لأول مرة، أن أسمع ضحكاتها دون وجع وهي تلعب، أن أجهزها في العام الدراسي الجديد لتدرس مع أقرانها"، وتختتم حديثها بدعاء أمٍ صادفت الفرح بعد انتظار سبع سنوات: "جزاه الله كل خير وأفرح قلبه كما أفرح قلوبنا".
وفرحة الأم لا تزيد على فرحة الأب، يقول فاضل الحصار: "استقبلت خبر التطابق بسجدة شكرٍ لله، أما يوم العملية فترقبي وانتظاري توزع بينهما؛ بين صديق العمر وفلذة الكبد، كنت أخط ممرات المستشفى ذهابًا وإيابًا، وأنا لا أفتر من الدعاء بسلامتهما، إلى أن خرجا منها سالمين".
ويضيف: "توجهت حينها لأخي وصديقي وبكيت، كنت أكرر الحمد والشكر لله، أما هو فكان يكرر سؤاله عن رقية في عز ألمه، وكان يردد بأنه لا يريدها أن تتألم مثله، وأن تبقى مرتاحة ومعافاة".
وينهي حديثه بقوله: "الحمد لله اكتملت فرحتي بخروجهما إلى المنزل، وهنا لا يمكنني إلا أن أتوجه له بقولي: "الله يبقيك لي أخًا وسندًا، والله إني لم أرَ أخًا في الدنيا يشبهك، كنت صديقًا واليوم أنت أبٌ لابنتي أسعدك الله كما أسعدتنا".