13 , يوليو 2025

القطيف اليوم

أيها الأب…"ابدأ بنفسك"

الحمد لله الذي أكرم الإنسان بالعقل، وجعل له في الأنبياء والأوصياء هداة ونوراً، والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد وآله الطيبين الطاهرين، الذين هم مشاعل الهداية ونبراس العدالة والرحمة.

أيها الأب، أيها الركن الذي تقوم عليه الأسرة، أيها القلب الذي ينفق بلا حساب، أتراك أدركت أن الله لم يكتب عليك أن تكون مجرد آلة للصرف، بل خلقك إنسانًا لك حقوق كما لك واجبات؟

إن الأب ليس “بنكًا متنقلًا”، وليس “بطاقة صراف” تُستخدم عند الحاجة، ثم تُنسى عند الاكتفاء. لقد خلقك الله أباً، لا لتُستنزف بلا مقابل، بل لتكون قائداً لأسرتك، راعياً لهم بعقل وحكمة، تحفظ كرامتك، وتصون حقك، وتعيش حياة متوازنة، كما أرادها الله لك.

فأين أنت من هذا كله؟ أين حقك على نفسك؟ أين موقعك بين من تحب؟ هل أنت حاضر في حياتهم بوجودك، أم تُذكر فقط حين يطلبون منك المال؟

التوازن بين العطاء والعدل: رؤية قرآنية وأخلاق نبوية

لقد رسم القرآن الكريم والسنة المطهرة لأهل البيت عليهم السلام منهجاً واضحاً في الإنفاق، يقوم على الاعتدال، فلا إسراف يهدر الموارد، ولا تقتير يضيّق على النفس. قال الله تعالى:

“وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَاماً" (الفرقان: 67).

وقد ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:

“ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك فلذوي قرابتك” (رواه مسلم).

وهذا ما علّمنا إياه أمير المؤمنين علي عليه السلام حين قال: “لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً”.

أيها الأب، أنت مسؤول عن أهلك، لكنك أيضاً مسؤول عن نفسك، فلا تكن عبداً لعطاء غير متزن، يرهقك ويُفنيك، حتى تجد نفسك في نهاية المطاف منسيّاً، مُستنزفاً، بلا تقدير ولا اعتبار.

الأب ليس مجرد مصدر للصرف، بل روح تستحق الحب والاحترام

إننا نرى اليوم كثيراً من الآباء الذين أنهكهم العمر، وذهب بريقهم، لأنهم ظنوا أن الأبوة تعني التضحية المطلقة، دون أن يدركوا أن من حقهم أن يكونوا بشراً لهم حاجاتهم، لهم استراحتهم، ولهم نصيبهم من الحياة.

كم من أب جاع ليشبع أولاده؟
كم من أب ارتدى البالي ليكسوهم الجديد؟
كم من أب نام مهموماً، وهو يعلم أن أحداً لن يسأله: كيف حالك يا أبي؟

وها هو الإمام الصادق عليه السلام يقول: “ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه”، أي أن العدل مطلوب، في كل شيء، حتى في العطاء بين النفس والآخرين.

أيها الأب، أين أنت من حياتك؟

ألا يحق لك أن تستمتع بلحظات هدوء؟
ألا يحق لك أن تهتم بصحتك، أن تخصص وقتاً لنفسك، أن تفكر في مستقبلك؟
هل يعقل أن تعيش أربعين أو خمسين عاما  في العطاء، ثم حين تتعب وتحتاج، لا تجد من يتذكرك؟

كم من أب أنفق شبابه في الكدح لأجل أبنائه، وحين كبر، وجد نفسه وحيداً، ينتظر زيارة لا تأتي، أو كلمة شكر لا تُقال؟

ألم يكن أهل البيت عليهم السلام أعظم النماذج في البر بالوالدين؟ ألم يُعرف عن الإمام الحسن عليه السلام أنه كان لا يجلس للطعام دون أن يكون والده أمير المؤمنين عليه السلام حاضراً معه، إجلالاً واحتراماً له؟

فأين نحن من هذا الوفاء؟ وأين نحن من تقدير الآباء وتكريمهم؟

رسالة إلى كل أب…

أيها الأب، لا تظلم نفسك، ولا تجعلها آخر اهتماماتك.
أنت منبع العطاء، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك على حساب صحتك وكرامتك.

كن متوازناً، أحبَّ نفسك كما تحبّ أبناءك، فالله أمرك بالعناية بهم، لكنه لم يأمرك بأن تهمل نفسك لأجلهم.

لقد أراد الله لك أن تكون قائداً، حكيماً، كريماً، ولكن لا أن تكون مستنزفاً.

امنحهم من حبك، من وقتك، من خبرتك، ولكن لا تعطي حتى تُفني نفسك.

فإن الله لا يرضى لك الظلم، حتى لو كنت أنت من تظلم نفسك.

وابدأ دائماً بنفسك، كما أوصاك نبيك الكريم: “ابدأ بنفسك”


error: المحتوي محمي