11 , يونيو 2025

القطيف اليوم

كُلْ قليلاً تَعِش طويلًا .. وصُمْ تَعِش أطول بإذن الله

اعتاد كثير منا على استقبال شهر رمضان بما لذ وطاب.. موائد وأشكال وأنواع فيه تمتلىء النفوس طمأنينة وفيه تفتح الشهية ويسيل اللعاب.. تلك الأكلات الشعبية الرمضانية التي كنا مقلين منها أو نفتقدها طوال العام، أكلات لها عراقة وأصول ومغلفة بأسرار الطهو المتراكمة منذ قرون .. أعتقد أن إقبالنا على تناول تلك الأكلات هي عادة غذائية راسخة في مجتمعاتنا  منذ القدم. والكثير من الناس حتى نحن أهل الغذاء نقع ضحية إغرائها .. تغري بتناول الكثير منها حتى لا تترك مكانًا لأخذ النفس . فالأكل فوق الشبع يأتي على حساب نصيب الماء والتنفس ولكل ثلث، فهو مضر بالجسم والعقل والروح ويجعل الصائم متعبًا وخاملًا، فيبعده ذلك من التفكر والتدبر. 

وللصوم حكمه البالغة وأسراره النافعة، والنص القرآني بدلالته الظاهرة قد بينه بجلاء ولم يشأ إخفاءه، وهو يتمثل يقينًا في تقوى الله -تباركت أسماؤه- وحسن رعاية حقوقه، جاء ذلك النص في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» البقرة: 183، فهذا الهدف الجليل يمثل الحكمة المركزية لفضيلة وفريضة الصوم في شريعتنا السمحة، أما المقاصد والأسرار المنبثقة والمتفرعة عن هذا الهدف فهي متروكة لنظرات العقول واستقراءات تجارب وأبحاث الإنسان.
أننا نجد أطباء كثيرين ينتسبون إلى مدارس علمية شتى يُجمعون على عظيم الفائدة التي يجنيها المرء بالصوم، فالطبيب الألماني المشهور «وولف بايير» كتب كتابًا سماه «العلاج بالصوم، علاج المعجزات» أكد في بعض فصوله أن الصوم هو الوساطة الأكثر فاعلية من أجل القضاء على أي مرض من الأمراض، ثم أضاف قائلًا: «إن الصوم والجراحة هما الأمران الكبيران المهمان اللذان نملكهما في عتادنا الطبي» ويقول الدكتور «أوزبك» أستاذ الجراحة في أوبسالا: «لقد حصلت على نتائج باهرة في أغلب الحالات المرضية التي عالجتها بالصوم»، لقد أكدت أبحاث مورغوليس «Morgulis» أن الصيام وحده قادر على إعادة شباب حقيقي للجسد يضمن الحفاظ على الطاقة الجسدية ويعمل على ترشيد توزيعها حسب حاجة الجسم.
ولهذا يتوجه كثير من العلماء ومراكز العلاج في العالم لاستخدام الصيام المتقطع لعلاج كثير من الحالات المرضية، ويطبق بطرق مختلفة تختلف حسب المدة ونوع الصيام فالبعض يصوّم مرضاه عن كل شيء إلا الماء، وبعضهم يصوّم مرضاه لمدة ست ساعات فقط في اليوم ويكررها لعدة أيام. 

دكتور جايسون فانغ - هو طبيب كندي متخصص في أمراض الكُلى. له شهرة عالمية في معالجة مرضى السكري - في دراسة عن تأثير الصيام على الجسم، وجد أن الصوم يرفع الطاقة ويعمل على حرق الدهون، وينشط هرمون النمو ليحافظ على العضلات أثناء حرق الدهون، ويرفع هرمون الأدرينالين لزيادة الطاقة التي يحتاجها الجسم، إذن الصوم يخفض الكربوهيدرات، بل هو أيضًا يخفض البروتين والدهون، وهذا سيؤدي إلى خفض الإنسولين، وحرق كل السكر ويخرجه من الدم، بل يخرجه من الجسم كله، وهذا هو الخيار المثالي لعلاج مرضى السكري النوع الثاني.

إن إحدى مصائبنا الغذائية التي تجعلنا في أحضان "المعمعة" الدوائية أننا لا نجوع، لا نجوع بالقدر الكافي، ولا نتيح للجوع أن يتمكن منا للدرجة التي تساعدنا على إصلاح أجسادنا، أننا لا نفعل ذلك، فلو أننا صمنا صيامًا حقيقيًا، الصيام الواجب في رمضان، لأضفنا مكاسب صحية، إنقاص الوزن، وتخليص الجسم من السموم، مع كسب رضا الله عز وجل.

نحن لا نجوع، والأسوأ أننا دائمو الشبع، بل أزعُم أننا نأكل كثيرًا لأننا تعودنا على هذا النمط.

تبدَّل حال مجتمعنا من قصة الجوع بكل تفاصيلها المأساوية إلى واقع الثراء الغذائي، حيث أصبح الناس يُنفقون المال لإصلاح الخلل في أجسامهم من الشراهة في الطعام.

مما لا شك فيه أننا معرضون لهذه التأثيرات، فهناك من يعيش من أجل أن يأكل والنتيجة بدانة وسكري وأمراض القلب .. وليس هناك من سبيل لتفاديها، ولكن في وسعنا أن ندرب أنفسنا على عدم تناول الأطعمة تلبية لحاجة البطن. 

نجد أن الكثير ممن يمارسون عادة الجوع، إنهم يحذفون أو يقننون الوجبات، ويستهلكون من السعرات الشيء القليل جدًا، ويأكلون من الطعام الأنواع المتزنة، ويمارسون النشاط العضلي، ويفضلون العمل بمعدة فارغة، وهذه وصفة تساعد الجسم على التركيز على تنقية نفسه والرجوع إلى حالة من التوازن، بدلًا من التركيز على هضم الغذاء.

أعطى الجوع فاعلية عظمى في مداواة أمراض مختلفة، وقد يفوق الأدوية بمرات عديدة، دون أن يكون له تأثير جانبي ضار على الجسم، أصبح الجوع وسيلة لعلاج الكثير من الأمراض، ومعروف طبيًا أن جسم الانسان يتأقلم مع الظروف المختلفة التي تطرأ عليه كنقص الماء والغذاء فحينما يواجه الجسم نقصًا في الغذاء فإنه يعيش على ما ادخر من مواد، وحينما يضطر الجسم إلى حل أنسجته الداخلية بسبب الجوع فإنه يبدأ حسب أهميتها بما ادخره من سكريات ثم الدهون ثم بالبروتينات.

فالجوع هدف أساسي للصيام ليحقق آثاره الإيجابية سواء الصحية أو الاجتماعية، يكفي الصائم بضع لقيمات يقمن صلبه، والصيام شهر كامل يوفر فرصة عظيمة للشفاء، أو تقليل مخاطر الإصابة بكثير من الأمراض. والجوع ليس شعورًا أو إحساسًا بالحرمان من الأكل فقط، بل يحدث خلفه كثير من التغيرات الإيجابية للجسم، ففي الوقت الذي قد يعاني الشخص من الجوع، يجري في خلاياه عمليات تنظيف هائلة للمواد المترسبة والسامة، ووقف نمو الخلايا السرطانية، فتموت تلك الخلايا دون أن يشعر بذلك كله، وهكذا الأمر في كثير من المشكلات الصحية التي يقضي عليها الصيام فتحدث وتختفي دون علم الشخص المصاب.

إذن، نستخلص من كلّ ما تقدّم، إذا كان المقصود مما سبق هو الصوم الطبي، فإن في ذلك إشارة أكيدة إلى ما يتضمنه الصوم الإسلامي ـفي شهر رمضان الكريمـ من معجزة بينة في عالم الروح، ومعجزة تستبين في عالم المادة الذي تجتاحه ملوثات الصناعة والحياة الصناعية .. أن الصوم بما فيه من تطهير للروح وتزكية النفس وتهذيب للخلق وتقويم للسلوك .. جعله الله عز وجل وقاية وعلاجًا لكثير من الأمراض .. فبجانب كسب رضا الله سبحانه وتعالى، هناك الكسب الصحي الذي يناله المسلم من صوم شهر كامل حيث يوفر فرصة عظيمة للشفاء، أو تقليل مخاطر الإصابة بكثير من الأمراض، فالصوم يعد تنقية داخلية عميقة وراحة فسيولوجية من أجل تجديد القوى الحية .. والصوم هو الأسلوب الوحيد أمام الإنسان المعاصر الذي يعيش في عالم مسموم هواؤه وماؤه وأطعمته؛ لطرح السموم التي تتراكم في الجسم .. والصوم هو الوسيلة الناجعة لتخليص الجسم من بلّورات الأحماض السامة التي تتراكم على مر السنين بسبب الإفراط في الأطعمة الحامضية والسامة، التي تسبب آلام الفقرات القطنية والظهر والمفاصل، وإذا كان البعض يتذرع بالقول: «المفاصل تؤلمني لأني أشيخ» فإن هذا غير صحيح لأن السبب الحقيقي هو بلورات الأحماض السامة التي لا تتحطم ولا تطرح خارج الجسم إلا بالصوم. أن الصيام ليوم واحد يطهر الجسم من فضلات عشرة أيام، وهكذا فإن شهر الصيام يطهر الجسم من فضلات وسموم عشرة أشهر على الأقل.
وفي الختام، تقوية الجسد مطلب أساسي حتى يستطيع الإنسان القيام بما أمر به ربه في هذه الأرض من عبادة المولى -عز وجل- وعمارة الأرض .. لقد عرفنا طريقنا إلى تلك الغاية: «كُلْ قليلاً تَعِش طويلًا ..وصُمْ تَعِش أطول بإذن الله».

منصور الصلبوخ - اختصاصي تغذية وملوثات


error: المحتوي محمي