
الحكمة، تلك الكلمة التي تتردد على مسامعنا في كل عصر وكل زمان، ولكنها تظل تحتاج إلى تدقيق وتفكر عميق لاستخلاص أبعادها الحقيقية. هي ليست مجرد مجموعة من الأفكار المتناثرة أو كلمات تتسلل إلى الأذهان في لحظات معينة، بل هي قدرة الإنسان على استيعاب الحقائق العميقة التي تحكم الحياة. الحكمة هي ذلك التوازن الرائع بين العقل والقلب، بين العلم والعمل، وبين الفهم السليم للواقع والعمل وفقًا له. ومن هنا تبرز قيمة الحكمة في كونها مسارًا للتحقق من الذات ومرآة للنضج الروحي والعقلي.
متى تكتمل الحكمة في الإنسان؟
لا تكتمل الحكمة في الإنسان إلا حينما تتحد ثلاثة أبعاد رئيسية: المعرفة، والعمل، والإيمان. هذه الأبعاد تشكل أسس الحكمة، وإن كانت الحكمة لا يمكن أن تتحقق بصورة كاملة إلا في الإنسان الذي يتبع هذا المبدإ الرباني، الذي يتمثل في المعرفة بالله والعمل بما يرضي الله.
1. المعرفة: الحكمة تبدأ من معرفة الله سبحانه وتعالى، وهو المبدأ الأول في الفكر الإنساني. كما قال الإمام علي عليه السلام: “من عرف نفسه فقد عرف ربه”. معرفة الله ليست مجرد معلومات عقلية باردة بل هي معرفة توصل إلى التبصر بوجوده المطلق وأسمائه الحسنى التي تفيض بالرحمة، والعطاء، والعدل.
2. العلم النافع: كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله: “اللهم إني أسالك علماً نافعاً”، العلم النافع هنا لا يعني مجرد الفهم الظاهري للمفاهيم أو معرفة الحقائق العلمية، بل يعني العلم الذي يحقق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة. من هذا المنطلق، يصبح العلم في الإسلام أداة للوصول إلى الله، وليس غاية في ذاته.
3. العمل الصالح: العمل الصالح هو ذلك الذي يتماشى مع ما علمه الإنسان، والذي يظهر في حياته كخضوع لإرادة الله. هذا النوع من العمل ليس محدودًا بفعل العبادة فحسب، بل يتسع ليشمل جميع جوانب الحياة اليومية، من الصدق والأمانة إلى العدل والإحسان. كما قال الإمام علي عليه السلام: “اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها، واعمل للآخرة بقدر خلودك فيها”.
متى يصل الإنسان إلى الحكمة؟
الحكمة لا تأتي إلى الإنسان كمنحة مفاجئة، بل هي ثمرة لرحلة طويلة من الاجتهاد المستمر. فقد يتساءل البعض: هل الحكمة شيء يمكن تحصيله بشكل فوري، أم أنها تتطلب زمنًا طويلًا لتكتمل؟ الجواب يكمن في سعي الإنسان الدائم نحو تهذيب نفسه وتنقية قلبه من الشوائب والظلمات. الحكمة هي نتيجة للتجارب الحياتية، والتأملات الروحية، والمجاهدة النفسية. وهي تكتمل حينما يستطيع الإنسان الجمع بين العلم والعمل في توازن بديع.
كما ورد في القرآن الكريم: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}. (البقرة: 269) هذه الآية تشير إلى أن الحكمة هبة إلهية، لكن مفتاحها يكمن في الاستعداد الروحي والعقلي لاستقبال هذا النور الإلهي.
الحكمة كما يراها الإمام علي عليه السلام
الإمام علي عليه السلام هو أحد أعظم رموز الحكمة في التاريخ الإسلامي، فقد كان نموذجًا متكاملًا للحكمة التي تتحد فيها المعرفة بالله والعمل الصالح. في العديد من حكمه، نجد كيف كان يربط الحكمة بمعرفة الله وتنفيذ أوامره. من أشهر أقواله في هذا الصدد: “الناس أعداء لما جهلوا، فإذا علموا أحبوا”. هذه الكلمات تبرز جوهر الحكمة عند الإمام علي، إذ تربط بين العلم والمعرفة العميقة والقدرة على الفهم الصحيح للعالم.
وقد قال الإمام علي أيضًا: “الحكمة ضالة المؤمن، فأنى وجدها فهو أحق بها”؛ ليوضح أن الحكمة ليست حكرًا على أحد، بل هي غاية يسعى إليها كل مؤمن يسعى لتحقيق الكمال الإنساني.
حكمة لقمان: نموذج من التاريخ
ولا يسعنا الحديث عن الحكمة دون أن نذكر حكمة لقمان الحكيم، الذي اختاره الله سبحانه وتعالى ليكون مثلًا للأجيال في الحكمة الرفيعة. في القرآن الكريم، جاء قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ} (لقمان: 12). هذه الحكمة التي آتاها الله لقمان كانت مزيجًا من المعرفة الإيمانية والعمل الصالح. لقمان الذي أعطى ابنه نصائح عظيمة منها قوله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ}، كان يمثل الحكمة التي تحقق توازنًا بين العبادة والمعاملة مع الناس.
الحكمة ومعرفة الإمام
إن من أبرز ملامح الحكمة في التراث الشيعي، هو ارتباط الحكمة بمعرفة إمام الزمان. كما قال الإمام الصادق عليه السلام: “من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية”. الحكمة هنا تكمن في معرفة الإمام، وهو رمز للحق والعدل، كما أن هذه المعرفة هي جزء من التمحيص الذي يعيشه الإنسان في سعيه للوصول إلى الكمال الإيماني والفكري. فتلك المعرفة تزيد من فهمه لواجباته الدينية، وطرق سيره على الطريق المستقيم.
سلمان المحمدي وحكمته في الإسلام
من أبرز الشخصيات التاريخية التي تمثل الحكمة الإسلامية، هو سلمان المحمدي. هذا الصحابي الجليل، الذي جمع بين العلم والعمل والإيمان، كان مثالًا حيًا للحكمة المتجسدة في الإنسان. من مواقفه المشهودة حكمة عميقة، وأبرزها تلك التي عبَّر فيها عن اختياره للإسلام بعد رحلة طويلة من البحث عن الحقيقة. ومن حكمه أن: “من طلب العلم فهو في سبيل الله، وإن استطعت أن تكون في سبيل الله فكن”. هذه الكلمات تعكس عمق فهمه للحكمة التي تتجاوز حدود المعرفة الظاهرة لتصل إلى عمق القلب والإيمان.
خلاصة القول
الحكمة ليست مجرد كلمات تقال أو أفكار تُردد، بل هي حالة من النضج العقلي والروحي تتطلب جهدًا مستمرًا، وصدرًا متسعًا لاستقبال نور الحق. إن الحكمة الحقيقية تكتمل عندما ينجح الإنسان في التوازن بين العلم والعمل، بين العقل والقلب، وبين الفهم العميق لوجوده ومسؤولياته في الحياة. من خلال هذا التوازن، يمكن أن يصل الإنسان إلى درجات من الكمال الروحي الذي يرضي الله، ويعيش في سلام مع نفسه ومع غيره، ليحقق الغاية من خلقه في هذا العالم.