13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

المرحوم الملا أحمد الوحيد فقد عينيه فانفتح قلبه!

بعد مرور أكثر من عام بقليل وددتُ أن أستذكر محطة أو اثنتين من حياة أخينا المرحوم الملا أحمد حسن الوحيد. إذا بقي في العمر بقية ربما أدون في خاطرة قصيرة أسماء بعض من كانوا يسهرون من الخطباء والملالي في جزيرة تاروت، وهو كان فيهم، حتى ساعة السحور كل ليلة من شهر رمضان قبل عشرات السنين.

مسافة لغوية قصيرة بين البصر والبصيرة وبون شاسع بين المعنيين، فإذا ما قلنا أن البصر هو رؤية الأشياء بالعينين نستطيع أن نقول إن البصيرة هي قوة الإدراك والفطنة، العلم والخِبْرة، أو الفراسة، صفات حازها المرحوم في شخصيته. يعطي الله سبحانه وتعالى العين التي ترى الأشياء والصور والبشر ولم يذم الله سبحانه وتعالى من يفقدها لأنه هو سبحانه وتعالى يحرم من يشاء من حاسة البصر. أما من فقد الرؤية القلبية -بإرادته- فقد ذمه الله سبحانه وتعالى وقال عنه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى ٱلْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ}.

وَعَيَّرَني الأَعداءُ وَالعَيبُ فيهِمُ
وَلَيسَ بِعارٍ أَن يُقالَ ضَريرُ
إِذا أَبصَرَ المَرءُ المُروءَةَ وَالتُقى
فَإِنَّ عَمى العَينَينِ لَيسَ يَضيرُ
رَأَيتُ العَمى أَجرًا وَذُخرًا وَعِصمَةً
وَإِنّي إِلى تِلكَ الثَلاثِ فَقيرُ

… بشار بن برد …

فقد بصره مبكرًا في حياته، لكنه لم يفقد بصيرته، وكان في مراحل حياته أكثر وعيًا من الكثير من الذين كانت أعينهم حادة. يقول الرسول محمد صلى الله عليه وآله: "شر العمى، عمى القلب! وأعمى العمى عمى القلب". أقف معكم -القراء الأعزاء- في محطتين من شواهد البصيرة لدى الأخ الراحل:

اختيار مهنة سامية: من الذي لن يعذره لو قال: أنا ليس لدي عينان، أنا مسكين، لن أعمل ولن أكسب ولن أشغل نفسي بمهمة شاقة؟ وإنما اختار أن يكون خطيبًا مثقّفًا ومثقِّفًا واعيًا، يكسب رزقه من مهنة سامية شريفة!

تحصيل الأدوات: اهتمّ أن يكون الكتاب حاضرًا في مكتبته وسافر بعيدًا نحو النجف الأشرف في العراق لتعلّم أصول اللغة العربية تعليمًا كافيًا حتى إذا ارتقى المنبر لم يلحن في الكلام وكان لديه ذائقة سليمة في النحو والأدب والشعر. عندما جاءت الدراسة الأكاديمية الخاصة بفاقدي البصر كان أول من التحق بمعهد النور في القطيف آنذاك وتعلم القراءة والكتابة بطريقة "برايل".

استأجرَ أو استعان بمن يعرفهم في مطالعة الكتب وتسجيل موضوعات مختلفة بأدوات تسجيل بسيطة ومرهقة من أجل أن يعيد سماعها مرة أو أكثر. لم يجعل العمى طوقًا في رقبته يمنعه من الحركة والنشاط وكان ينظر إلى الحياة والمهنة بطريقة جادة.

عندما أكتب هذا الملخص القصير لا أنسى أن أنصح من يريد مهنة -مثل الخطابة- عليه أن يعرف أدواتها وأن يتقنها وألا يتسرع حين يرى في نفسه الجرأة والشجاعة على ارتقاء المنبر ويقول: هذا يكفي! لا! هذا لا يكفي!

أعود فأقول لكم -القراء الكرام- أنني ذكرته في هذه الخاطرة المختصرة لأنني عرفته فاقد البصر وواجد البصيرة واليقظة، وليس كل أحد يملك الخصلتين! لم يكن الوحيد الذي تميز بين أقرانه فهم كانوا ثلة من المتميزين رأيناهم في ذلك الزمان!


error: المحتوي محمي