13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

من أم الحمام.. سلمى الشبيب تقايض الحاسب الآلي بتصاميم الخزفيات والقطع الفخارية.. وورشة في الرياض تفتح متجرها

لم تكن تاء التأنيث لديها ترضى بغير الجمال الأخضر في عالمها، فكانت النباتات الداخلية للزينة عالمها الداخلي الجميل في جنتها البيتوتية الصغيرة، ولطالما تمتعت فيها صباحات طويلة بالاعتناء بتلك النباتات وريّها، فكأنّ داخلها يتغنى بمقولة "الماء والخضرة" لكنّ سلمى يحيى الشبيب شاءت أن يكون "الكوب الحسن والأحواض الأنيقة" هي إضافتها المختلفة لتلك المقولة، بعد أن لاحظت نقصًا في تنوّع أشكال أحواض النباتات المتوفرة محليًا وتكرُّر أو تشابه التصاميم المعروضة للطلب، ولأن الدلال لنباتاتها يستهويها، فقد قررت البحث بذاتها عن كيفية صناعة أحواض النباتات، ومن ذلك البحث وجدت ابنة أم الحمام نفسها في عالم الفخار والخزف المبهر، وبتجربة تلو الأخرى، وحوضٍ يتلوه حوض، وكأسٍ يتبعهُ كأسٌ آخر انطلق مشروعها "خزفيات سلمى" لصناعة القطع الخزفية، وما زالت تلك الخزفيات تترى في بحثٍ دؤوب عن التطور والجمال الحرفي الخزفي.

خزفيات
شتان بين بكالوريوس علوم الحاسب الآلي وصناعة الخزف، لكن الهواية حينما تصدح بصوتها الرنان لا يكون للتخصص شأنٌ في أمر صاحبه، وهي تجربة حكتها الشبيب للـ«القطيف اليوم» قائلة: بدأ الأمر لدي بهواية وانتهى بمشروع، فقد كانت هوايتي المحبّبة هي الدلال والاعتناء بالنباتات التي أزيّن بها منزلي، ومع الوقت تبين لي نقص ملحوظ في تنوّع أشكال أحواض النباتات المتوفرة محليًا، فعقدتُ العزم على أن أبحث عن كيفية صناعة أحواض النباتات، ولم أكن أعلم حينها أنني أطرق أبواب الجمال الخزفي الذي فتن روحي، لكن صنعة الخزف لم تكن منتشرة بالشكل التي هي عليه اليوم في السعودية، وعدد استديوهات الخزف كان محدودًا جدًا، ولم يكن هناك أي ورش أو دورات لتعليم الخزف في المنطقة الشرقية، وإن توافرت فهي متاحة لفترات ضيقة، لكنني منذ أول ورشة حضرتها في العاصمة الرياض لتجربة فن الخزف أبهرتني هذه الحرفة، وعرفت حينها أني أرغب بشدة في تعلمها وممارستها.

تغيرت الخطة
مع الخوض في هذا العالم الجميل الواسع جدًا تغيرت الأهداف في ذهن سلمى، وانتقلت من أحواض النباتات إلى الأكواب التي وجدت المتعة في صناعتها، فالأكواب الخزفية من وجهة نظرها هي تحف فنية قابلة للاستخدام، ومما ساعدها على الإنجاز هو الدعم والتشجيع وخاصة بسند زوجها لها الذي كان داعمًا في جميع المراحل، فلم يكتفِ بالسفر معها عند حضورها للورشة التدريبية في الرياض، بل شاركها التجربة وحضور الورشة، ثم جديته في الدعم بدءًا من تهيئة المكان المناسب للعمل، وانتهاءً بتقديم العون بكافة أشكاله، وكان لمباركة الأهل والأصدقاء لعملها بالإشادة والتشجيع والمساندة الدور الكبير في الشعور بروعة الإنجاز والإصرار على المواصلة.

هدف
عملت سلمى موظفة في القطاع الخاص فترة سابقة في حياتها، لكنّ تلك الوظيفة لم تكن هدفها المهني الحقيقي، فقد تجلى الهدف الحقيقي نصب عينيها منذ أن أخذت قرار دخولها لعالم الخزفيات، ألا وهو التجارة في مشروع استهواها وأعجبها، وبعد التدرب والعمل الدؤوب لعدة أشهر، صنعت مجموعة من الأكواب وأهدت بعضها للعائلة والمقربين منها، ثم خطت خطوتها الثابتة في المشروع  بعرض بعض أكوابها الخزفية على حسابها في الإنستغرام salmapottery في نهاية عام 2022م مستمرة إلى الآن.

لم تكن يسيرة 
شقت ابنة أم الحمام طريقها في الخزفيات بعد أول ورشة حضرتها في الرياض فاجتهدت في البحث عن المواد المناسبة للحرفة والتعرف عليها، ولم تكن تلك بالرحلة اليسيرة لديها لعددٍ من الأسباب كان أبرزها محدودية المواد والأدوات المتوفرة في المملكة، فالطين المحلي المتوفر في منطقة القطيف صالح لصناعة الفخار فقط، لكنّهُ غير صالح لصناعة خزف يستخدم كوعاء للشرب أو الطعام، إضافة إلى أنه من المهم لحرفي الخزف التعرف على ماهية المواد المطلوبة أولًا كالأنواع المتعددة لطين الخزف، واختلافه من عدة نواحٍ كدرجة الحرارة المطلوبة لحرقه، واللون والملمس النهائيان واللذان يبدوان مختلفين تمامًا قبل عملية الحرق وبعدها وما يتناسب من ألوان ومواد تزجيج مع كل نوع وكل تلك الأمور لا يتعرف عليها الخزاف إلا من خلال العديد من التجارب والتعامل مع الخزف، فهو فن واسع ومتشعب جدًا على حد تعبيرها.

وللخزف فرنه الخاص
لا بد لفناني الخزف من اختيار وامتلاك الأدوات والأجهزة المستخدمة في حرفتهم بناءً على المجال الذي يهتم به الخزاف وتفضيلاته الخاصة، لكن الجهاز الذي لا بد لكل خزاف من استخدامه هو "فرن الخزف" الذي تصل درجة حرارته إلى أكثر من 1000 درجة مئوية، فبدون هذا الفرن لا يمكن للطين أن يتحول إلى خزف قابل للاستخدام في الأكل والشرب، وفي بداية مشروعها اعتمدت الشبيب على بعض الخزّافات القلائل في القطيف والدمام ممن يمتلكن أفران الخزف، ويقدمن خدمة حرق القطع الخزفية، لكنها وجدت صعوبة تتعارض مع صالحها تتمثل في تحديد المدة الزمنية لتنفيذ الطلبات، فقد لا تتوافر هذه الخدمات في الوقت المناسب لها، أو يكون لصاحبة الفرن شروط يصعب عليها تنفيذها أحيانًا، لذا قررت شراء الفرن الكهربائي الخاص بها، ليُتاح لها القيام بتجارب إضافية، وتنفيذ الطلبات في الوقت المناسب، وكان هذا القرار صعبًا ومكلفًا في آن واحد، فتكلفة شرائه وشحنه من الخارج عالية جدًا، تصل لأكثر من 20 ألف ريال، و يستغرق في شحنه عدة أشهر.

على قدر أهل التحدي
كان شراء الفرن تحديًا لسلمى قبل أن يكون قرارًا، فبالإضافة لتكلفته وشحنه ففرن الخزف له متطلبات خاصة في المساحة والكهرباء، وكان لا بد لها أيضًا من البحث المطوّل، للتعرف على هذه الأفران، ومتطلباتها، وأنواعها، والشركات المختلفة المصنّعة لها حول العالم، كل ذلك لاختيار الفرن المناسب ذي الجودة العالية، لكنها كانت على قدر التحدي مع كل ما يستصعب عليها في سبيل نجاح مشروعها.

رحلة خزف
تستعرض الشبيب مراحل صناعة الخزف، التي يكون أصلها قطعة من الطين اللين الذي يجف عند التعرض للهواء، فيكون عندها قابلًا للكسر بسهولة، لذلك فتوقيت كل مرحلة من المراحل يعتمد على نسبة ليونة أو جفاف الطين، ففي البداية يتم تشكيل الطين بأحد الأساليب المتعارف عليها، فغالبية القطع الشخصية التي صنعتها شكلتها على عجلة الخزف الكهربائية، وهذا الأسلوب يعد من أكثر الأساليب صعوبة في التعلم، إن لم يكن الأصعب، أما بعض الأساليب الأخرى كالتشكيل بالضغط باليد أو عن طريق فرد شرائح الطين يمكن تعلمها في يوم أو بضعة أيام، بينما التشكيل على العجلة يتطلب الكثير من التدريب المستمر يصل لبضعة أشهر على الأقل.

وبعد أن تتماسك القطعة اللينة يصبح بالإمكان تشذيبها أو إضافة قطع لها، مثل مقبض الكوب، أو نحت القطعة بحسب ما يتناسب مع التصميم النهائي، وبعد جفاف القطعة تمامًا يتم إدخالها الفرن للحرق الأولي الذي تكون نتيجته قطعة مسامية أو ما يعرف بـ"الفخار"، وبعدها يُطلى الفخار بمادة القليز glaze أو ما يعرف بالتزجيج، ثم يتم إدخال القطعة للحرق في فرن الخزف مرة أخرى لإكمال عملية التزجيج.

استديو العمل
في داخل ورشتها أو استديو العمل خاصتها تتعامل الشبيب مع الخزفيات بكل براعة، بعد أن علمت أسرارها وتشاركت معها تجارب النجاح والفشل، فالتعامل مع الخزف أساسه الانتباه والحذر، فخطأ بسيط قد يكلّف إعادة العمل من جديد فلمسة بسيطة على الطين مثلًا وهو شديد الليونة قد تترك أثرها عليه، ولكنه حينما يكون جافًا غير محروق فإن الضغط عليه ولو بشكل بسيط قد يتسبب بكسره، وأما ملامسته للماء قد تذيبه، وكل تلك الأمور غالبًا ما يتعلمها الخزاف بالتجربة والخطأ، فقد حصل ذات مرة أن طلت أحد الاكواب بقليز غير ثابت؛ لتتفاجأ بانصهاره أثناء الحرق والتصاقه بأحد أرفف الفرن، ولم ينفصل إلا بكسور في الكوب، مما اضطرها لإعادة صناعة الكوب من جديد، ونحت الرف لإزالة المتبقي من القليز، فكان هذا درسًا مهنيًا تعلّمت منه أنه لا بد من تجربة القليز لمعرفة خواصه قبل استخدامه في صناعة القطع الخزفية.

إلهام
تتلقى الشبيب طلباتٍ من الكثير من الزبائن في صنع أكوابهم الخاصة والتي تتناسب في تصميمها مع ذائقتهم الفنية، ومع مفضلات الأشخاص الذين يرغبون بإهدائهم، فتهديهم من جانبها المساعدة لإيجاد التصاميم اللائقة والقابلة للتنفيذ، لكنّ هذه التصاميم هي إحدى مصادر الإلهام بالنسبة لها أيضًا، إلا أنّها في ذات الوقت تحرص على متابعة أعمال الخزافين الآخرين سواء المحليين أو حول العالم لتستلهم منهم بعض الأفكار، ثم تضيف لها لمساتها الخاصة لتخلق منها التصميم الخاص بـ"خزفيّات سلمى".

14و21
تستغرق سلمى حوالي الأسبوعين أو الثلاثة لإنتاج كوب أو حتى بضعة أكواب، وقد تستغرق بعض القطع الخزفية أطول من ذلك إما لتعقيد تصميمها، أو لكبر حجمها مثلًا، فصناعة كوب ليست كصناعة وعاء عجن أو صينية تقديم مثلاً، وقد يرى البعض أنّ الفترة طويلة لإنتاج كوب أو عدة أكواب، لكن تلك المدة مرتبطة برحلة الخزف وما تستلزمه من وقت لتماسك قطع الطين وتجفيفه، والذي لا بد أن يتم بشكل جيد لتجنب حصول تشققات، أو حتى انفجار القطعة في الفرن عند وجود رطوبة بها، أضف إلى ذلك مدة الحرق في الفرن، حيث إنّ كل عملية حرق تستغرق ما يقارب الـ24 ساعة.

عمل فني 
يتم احتساب سعر الخزف بحسب حجم القطعة، والمواد، والجهد والوقت المستهلك في صناعتها، لذلك لا بد من معرفة التصميم تحديدًا لتسعير القطعة، لكن أعمال الشبيب وتصاميمها لاقت استحسان الكثيرين وإعجابهم حتى من خارج المملكة من دول الخليج وغيرها من الدول العربية وتتلقى التساؤلات حول قابلية استخدام الأكواب للشرب وخاصة للمشروبات الساخنة، فهي قد تبدو للبعض كعمل فني، وكذلك الاستفسارات بين حين وآخر حول إمكانية الشحن، وبصورة عامة فإنّ من يتواصلون معها يكونون عادة إما مهتمين بنفس المجال ولذلك تكون أسئلتهم تقنية يتبادلون من خلالها الخبرات، أو عملاء يرغبون بالطلب فتدور أسئلتهم حول إمكانية تنفيذ تصميم معين أو عن مدة تنفيذ الطلب وتكلفته وما إلى ذلك.

موردٌ معطاء
تمتن ابنة أم الحمام للعالم الخزفي الجميل الذي تلمست فيه أنّ الكثير من الخزافين العالميين والمحليين منفتحون في عرض تجاربهم، وتبادل الخبرات مع الآخرين عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا ما أتاح لها تعلّم هذه الحرفة، والوصول للنتائج التي كانت ترغب بالوصول لشاطئها، لكنها ترى بأنّ مشروعها لا يزال في بداياته، ولا يزال أمامها بحار واسعة وعميقة من التجارب على حد وصفها لخوضها مستقبلًا؛ لتطوير المشروع وتقديم الإضافات لحرفتها الجميلة، ولربما كانت خدمة حرق القطع الفخارية والخزفية التي تقدمها  للخزافين والخزافات حاليًا هي الإضافة التي تعتز بوصولها كمُستقى يؤخذ منه بعد أن كانت تستقي من الآخرين.
















error: المحتوي محمي