
بعد أن باعدت بيننا السنوات الطوال بسبب ظروف تغيير العمل ومشاغل الحياة العديدة، التقينا أخيرًا صدفة، في زواج أحد أبناء الأصدقاء. سألني إن كنت قد كتبت عن سفرتنا إلى الرياض منذ قرابة الثلث قرن، حيث كنا منتدبين لحضور دورة دراسية في إدارة الوقت في المعهد المصرفي بالرياض، وقد كنا نعمل سويًا في أحد البنوك، فقلت له لم تخطر فكرة الكتابة على بالي البتّة، لكنني طلبته جانبًا لتجديد ذكريات تلك السفرة الاعتيادية، لولا ما لاقيناه من مفاجآت غير متوقعة ونحن في طريق العودة بالطائرة من مطار الرياض إلى مطار (الظهران) على متن طائرة تراي ستار، فقلت للصديق (عبدالله): إن مجرد استحضار تلك الرحلة التي قصصتها على أصدقائي وأصحابي لعشرات المرات يثير في نفسي الذكريات ويجعلني أحلّق بعيدًا فيما آلت إليه الأمور في تلك الرحلة القصيرة في زمنها والطويلة في معاناتها، فقد كنا في نهايات شهر أبريل من 1993، وكانت سماء الرياض ملبّدة بالغيوم وقت مغادرة الطائرة، كما كان الطقس باردًا نسبيًا، حيث ما زالت أيام الشتاء في أواخرها، لكن الأمطار قليلة في العادة ومتقطعة.
طائرة تراي ستار كبيرة الحجم نسبيًا بمفهوم ذلك الزمن، مقاعدها وفيرة ورحبة، وكانت مزدحمة بالركاب، كان سير الرحلة في البدء هادئًا، وتحليقها كان ناعمًا، وأحاديثنا كانت منصبّة إجمالًا حول الاشتياق إلى أهلنا وأبنائنا، وكنا نتحدث عن مشترياتنا والهدايا التي سنقدمها لأطفالنا، ولكون (عبدالله) رجلًا كريمًا، فقد كنا نجول كل يوم بعد المحاضرات في أسواق الرياض للتبضّع، وكان حينها شديد الولع بشراء الأنواع العديدة من اللعب لأحد أبنائه الصغار، وكان يكرر على مسامعي أن ولده ذا العشر سنوات سيفرح فرحًا عارمًا، ويردف متسائلًا ومتمنيًا: متى سيكتب له أن يجلب الهدايا لأحفاده؟ وأجيبه بصورة عفوية: عندما يكبر أبناؤه ويتزوجون فينجبوا، كانت إجاباتي له وديعة تفيض محبةً واحترامًا، لا أعرف من أين تعلّمت قول جمل وعبارات تبث الفرح من قبيل "الله يبلغك فيهم جميعًا"، تلك الجمل وأمثالها جعلته يسترسل في سرد أمنياته التي تركّزت في رؤية أبنائه وقد كبروا وشدّوا ساعدة، كنا نتجاذب أطراف الحديث، وللحديث شجون، ويحلو الكلام عندما تكون بحضرة شخص تكنّ له الود والاحترام، وتأنس بصحبته، فتشعر بالأمان مما سوف تخبره، ولا تتحرج في البوح له ببعض من أسرارك وهمومك.
مضت الطائرة في مسارها الذي بدأ يتغير صعودًا وهبوطًا، تشق بنا عنان السماء الشاهقة، وتدخل بين الغيوم الكثيفة، ثم ما تلبث أن تغيّر سرعتها، كنت ألاحظ ذلك التغير من موقعي بالقرب من جناحها العريض ومقعدي الملاصق للنافذة. كانت المطبات تزداد، فتهز بدن الطائرة اهتزازات قوية، استأذنني صاحبي، وتناول قرآنًا يحتفظ به في حقيبته اليدوية، فقال لي بأنه لا يشعر بالراحة والأمان الحقيقي إلا عندما يقرأ آيات من الذكر الحكيم، أما حركة الطائرة فكانت تزداد تمردًا، كأنها حصان هائج فرّ من حظيرته، وأصبح لا يبصر وجهته، فكان التصادم مع الغيوم الكثيفة أشدّ عنفًا، حتى إن قبطان الطائرة أمرنا بربط الأحزمة، وأخبرنا أننا نمر بمنخفضات جوية عنيفة وطويلة.
مع ازدياد المطبات الهوائية أصبحت الطائرة كمن أصابها البرد، تنتفض كطفل يرتعد من الحمّى، تفرست في وجوه من حولي فلم أرَ غير الوجوم والذعر، وصديقي راح يبسبس ويحوقل ويمسح القرآن على وجهه، وبينما نحن على هذه الحال، وقد انقضى الوقت الافتراضي لوصول الطائرة، فإذا بشعور قوي بدأ يستوطن أركان نفسي وكأن الطائرة بدأت تهوي لأعماق سحيقة، وكأن قبطانها فقد السيطرة عليها، وضجّت الطائرة بالصراخ والعويل، وارتفع الأذان والتكبير من كل حدب وصوب، وفي تلك اللحظات، قد غاب عن الأنظار المضيفون، وبدأ العديد من الركاب يقذفون ما في معداتهم مباشرة على ملابسهم، وتعالت صيحات النساء والأطفال والشيوخ، التفت صديقي عبدالله إليَّ قائلًا بأن وجهي أصبح أصفر، وقلت له ووجهك أنت أيضًا، وأضاف قائلًا، على ما يبدو أن الهدايا التي ابتعناها ستسقط معنا، كان صرير أسناننا مسموعًا رغم الجَلَبة الكبيرة التي عمّت أرجاء الطائرة، وكان هناك شخص يجلس بالقرب من الصديق قد طلب ماء وبطانية لكن لم يكن أحد بمقدوره تلبية طلبه في تلك اللحظات. أما الطائرة فكأنها أصبحت سعفة في مهب الريح، حيث كانت تموج في وسط زوابع وعواصف قوية، وقد كانت تصطدم بالرياح العاتية مخلّفة ارتجاجات عنيفة، تهز بدنها هزًا عنيفًا، فتسمع طرقعة مفاصلها، وكأنها أوشكت على التفكك، فتدلّت كمّامات الأكسجين وأصبحت كلعب الأطفال المتأرجحة، فلم ألحظ أحدًا قد تناولها، فكل شيء بدأ يهوي، وكل شيء بدأ يتحرك ويتدحرج في الممرات، الصحون والصواني وكاسات الورق، أصبحت تطير معنا وتسبح تجاه الطائرة.
في تلك اللحظات العصيبة، صرنا نسمع الشهادة من كل مكان، وعلامات الهلع مرسومة على الوجوه، منظر احتضان الركاب بعضهم بعضًا ينمّ عن الإحساس بقرب الأجل والخوف من السقوط منفردين، تشابكت أيدينا أنا والزميل عبدالله، ونحن نكرر كلمة الوداع، ونشتم الساعة التي قبلنا فيها تلك الدورة التدريبية اللعينة، دمعت عينا صاحبي، ولم أصدق ما كنت أراه، فدخلنا في موجة بكاء نخفف من خلالها عن مشاعرنا المختنقة، يتطلع نحوي دقائق وعصرات الموت قد ارتسمت على كامل صفحة وجهه، ثم ما يلبث في غمرة صراع الطائرة مع الرياح الشديدة، أن يمسك القرآن ليقرأ، لكن هل أصبح لديه دقيقة واحدة للتركيز فيما يقرأ؟، كلا، فعيناه كانتا هائمتين، وحركة أجسادنا في انفعال وهيجان، وبالأخص أرجلنا التي تتلاطم مع بعضها البعض، وصرير أسناننا المتزايد، لاحظت حركة عيني زميلي كانتا لا تتوقفان كما أنهما تدوران بشكل جامد، كما أن يديه بدتا مشتبكتين بقوة وذلك بعد إحدى السقطات الشديدة، لم أنتبه له وهو يحاول لفت نظري إليه من خلال كتفه الذي طرق كتفي، فانتبهت إلى أنه فقد الكلام بشكل مؤقت وأصبحت أسنانه البيضاء تتراقص من شدة الهول، أما أنا فكنت أحاول بين حين وآخر أن ألقي نظرات من النافذة، فلا أجد غير أجنحة الطائرة التي تتمايل بنا يمنة ويسرة، وكأن تلك الأجنحة على وشك الانفصال عن جسم الطائرة.
في الحقيقة كنت أحاول أن أبعد عن نفسي تلك الوساوس، لكن الحدث أقوى من محاولة تشتيت الأفكار. كنت أتصور أن الطائرة قد تعطلت محركاتها، أو أن تكون أجنحتها لم تعد تقاوم تلك العواصف الشديدة، لكن حتى تلك الهواجس تتبعثر أحيانًا من شدة صراخ الركاب، ومن النحيب الذي يشق نياط القلب ومن نداء الاستغاثة الذي تسمعه من كل مكان. يتصبب العرق رغم أن الجو كان لا يزال باردًا، أما خفقان ورجفان القلب فكان ينذر هو الآخر بالتوقف، مر على رحلتنا ما يزيد على ضعف الزمن ولاتزال المسافة أو الوجهة غير معلومة، والألم يعصف بنا، تمنيت أن ينتهي هذا العذاب بأي طريقة كانت، الوقت يأكلنا، وصراع الطائرة لايزال في أوجّه، لولا عدة كلمات سمعها الجميع من قائد الطائرة بلكنته الإنجليزية وبصوت مرهق، يخبرنا بالعاصفة القوية التي ضربت المنطقة الشرقية والشمالية من السعودية، أفادنا بأنه حاول الهبوط في مطار الظهران ولم يستطع، وحاول مرة أخرى الهبوط في مطار البحرين وفشل، وأنه متوجه إلى مطار الدوحة، حيث يتعذر عليه العودة إلى مطار الرياض، فقد وصلت العاصفة إلى هناك، وقال نحن الآن على مقربة من مطار الدوحة، إلا أن الطائرة لم تهبط، ولم يكن بإمكانها الهبوط من شدة الرياح، ومضينا نجترّ آلامنا وأمنياتنا في ظروف سيئة للغاية، بعدها ساد الهدوء لدى العديد من الركاب، ليس لأن الطائرة بدأت تستقر، بل لأن العديد أصيب بالإغماء والإعياء، هذا ما عرفته لاحقًا.
أمضينا قرابة الساعتين، والطائرة لم تحطّ رحالها في قطر، وعاد قبطان الطائرة للصمت، والطائرة تستمر في شق طريقها بين الغيوم، لقد كان لدينا بصيص من الرجاء وبعض من الأمل، أما الآن فقد غاب كل شيء، فصاحبي عبدالله لم يعد قادرًا على الكلام، فتلثّم بشماغه الأحمر ووضع القرآن على جبهته، ولا أعلم ماذا حل به، أما أنا فقد كانت عيناي زائغتين وقلبي حسبته قد خرج من القفص الصدري وأنفاسي الملتهبة أصبحت تتقطع، أما يدي ورجلي فقد تنمّلتا، في هذه الفترة قفزت إلى ذهني تلك الإشارات التي يقوم بها طاقم الطائرة، وكيف نقوم بإنقاذ أنفسنا حالة تعرض الطائرة إلى مصيبة، وأخذت أبحث عن سترة النجاة، فهي تحت المقعد، ولكن كيف أجلبها ونحن في تلك الحالة، ما هوّن الأمر نسبيًا هو انخفاض عدد المطبات، ولو أن هويات الطائرة أصبحت أكثر حدّة، والواضح أن الطائرة بدأت تتجه إلى الأسفل بشكل حاد، لكن بثبات، وعندها، سمعنا كلمة أيها السيدات والسادة، نحن نقترب من مطار الظهران استعدادًا للهبوط الجبري، فقد هدأت العاصفة نسبيًّا، إلا أن الأمطار مازالت قوية، وأن قبطان الطائرة لابد له من الهبوط، في جميع الحالات، فوقود الطائرة بدأ ينفد، ويتوجب علينا الهدوء كي نساعده في إنجاز المهمة بنجاح، الطائرة تتجه إلى الأسفل دون تردد، وسط أمطار ورياح قوية عاتية، وهي تشق طريقها بتحدٍّ، أحدّث نفسي في الدقائق الأخيرة، إما أن ننجو من هذه المحنة أو أن نكون ضمن نشرات الأخبار المحلية والعالمية.
وعندما اقتربنا من المدرج، سألني الصديق عبدالله وحبّات العرق اختلطت مع الدموع، الحمد لله، ها نحن نحلّق فوق المدرج، وبانت ملامح الحياة مرة أخرى، أما ركاب الطائرة فقد زادت مناجاتهم وأدعيتهم وتكبيرهم وبالتحديد عند اقتراب الطائرة نحو المدرج أصبحت الطائرة تتمايل كالأرجوحة، حتى لامست عجلات الطائرة مدرج مطار الظهران وسط برك من المياه، أخذت الطائرة تسير على المدرج وهي تترنح بتثاقل، وكانت عربات الإسعاف والإطفاء والأمن، وحشود غفيرة مدنية وعسكرية في المطار، ثم نقلونا إلى قاعة المطار في سيارات خاصة، حينها كنت أرى الوجوه التي عاودتها، تنظر إلى المنظرين والعابرين والعاملين وكأنها للتو تتعرف على الحياة بعد غياب طال انتظاره، كنا نسمع عبارة الحمد لله على السلامة (مكتوب إليكم حياة جديدة)، وكانت سيارات الإسعاف تنقل المرضى والمصابين.
عندما هدأت أجواء العاصفة، وسمح لنا بالمغادرة، استقلتنا سيارة الصديق عبدالله ولا أعرف وصف حالتنا، هل كنا مندهشين أو فرحين أم حزينين ومرعوبين، أعتقد كلانا كان كل ما ذكرت، اختلاجات رهيبة أصبنا بها، فلا شك أننا كنا قاب قوسين أو أدني من كارثة محققة!
ما أبهرنا هو ما شاهدناه ونحن في طريق العودة بالسيارة، الأشجار المقتلعة من الجذور منثورة وسط الطرق وعلى جوانب الشوارع السريعة، والمياه التي امتلأت بها الترع والمنخفضات حتى أصبحت بحيرات تحط عليها الطيور، والوحول تحفّها من جميع الأطراف، وعلى أطراف المدينة شاهدنا خزانات للمياه أسقطتها العواصف، وطارت بالقرب منها الكثير من الملابس التي كانت تنشر فوق السطوح، وصفائح بيوت الفقراء قد تناثرت في كل جانب، واقتلاع وتحطم زجاج النوافذ، وسقوط بعض حيطان البيوت القديمة.
عندما وصلت إلى البيت كانت زوجتي تحتضن أطفالي الصغار، وهي في حالة بكاء ورعب، بادرتني بقولها إن الله قد استجاب إلى دعواتي، وها أنا أكحّل عينيّ مرة أخرى برؤيتك، نظرت إلى حديقة المنزل التي لم تبقَ فيها شجرة إلا وأسقطتها العاصفة، ابتسمت إلى زوجتي وقلت لها وأنا أشير إلى الزرع المهشم: هذا شيء مقدور على إصلاحه طالما كتبت لنا الحياة، أما الصديق عبدالله فقد أدار مفتاح سيارته متوجهًا إلى بيته ودموع الفرح تملأ مقلتيه الحائرتين!
طائرة تراي ستار كبيرة الحجم نسبيًا بمفهوم ذلك الزمن، مقاعدها وفيرة ورحبة، وكانت مزدحمة بالركاب، كان سير الرحلة في البدء هادئًا، وتحليقها كان ناعمًا، وأحاديثنا كانت منصبّة إجمالًا حول الاشتياق إلى أهلنا وأبنائنا، وكنا نتحدث عن مشترياتنا والهدايا التي سنقدمها لأطفالنا، ولكون (عبدالله) رجلًا كريمًا، فقد كنا نجول كل يوم بعد المحاضرات في أسواق الرياض للتبضّع، وكان حينها شديد الولع بشراء الأنواع العديدة من اللعب لأحد أبنائه الصغار، وكان يكرر على مسامعي أن ولده ذا العشر سنوات سيفرح فرحًا عارمًا، ويردف متسائلًا ومتمنيًا: متى سيكتب له أن يجلب الهدايا لأحفاده؟ وأجيبه بصورة عفوية: عندما يكبر أبناؤه ويتزوجون فينجبوا، كانت إجاباتي له وديعة تفيض محبةً واحترامًا، لا أعرف من أين تعلّمت قول جمل وعبارات تبث الفرح من قبيل "الله يبلغك فيهم جميعًا"، تلك الجمل وأمثالها جعلته يسترسل في سرد أمنياته التي تركّزت في رؤية أبنائه وقد كبروا وشدّوا ساعدة، كنا نتجاذب أطراف الحديث، وللحديث شجون، ويحلو الكلام عندما تكون بحضرة شخص تكنّ له الود والاحترام، وتأنس بصحبته، فتشعر بالأمان مما سوف تخبره، ولا تتحرج في البوح له ببعض من أسرارك وهمومك.
مضت الطائرة في مسارها الذي بدأ يتغير صعودًا وهبوطًا، تشق بنا عنان السماء الشاهقة، وتدخل بين الغيوم الكثيفة، ثم ما تلبث أن تغيّر سرعتها، كنت ألاحظ ذلك التغير من موقعي بالقرب من جناحها العريض ومقعدي الملاصق للنافذة. كانت المطبات تزداد، فتهز بدن الطائرة اهتزازات قوية، استأذنني صاحبي، وتناول قرآنًا يحتفظ به في حقيبته اليدوية، فقال لي بأنه لا يشعر بالراحة والأمان الحقيقي إلا عندما يقرأ آيات من الذكر الحكيم، أما حركة الطائرة فكانت تزداد تمردًا، كأنها حصان هائج فرّ من حظيرته، وأصبح لا يبصر وجهته، فكان التصادم مع الغيوم الكثيفة أشدّ عنفًا، حتى إن قبطان الطائرة أمرنا بربط الأحزمة، وأخبرنا أننا نمر بمنخفضات جوية عنيفة وطويلة.
مع ازدياد المطبات الهوائية أصبحت الطائرة كمن أصابها البرد، تنتفض كطفل يرتعد من الحمّى، تفرست في وجوه من حولي فلم أرَ غير الوجوم والذعر، وصديقي راح يبسبس ويحوقل ويمسح القرآن على وجهه، وبينما نحن على هذه الحال، وقد انقضى الوقت الافتراضي لوصول الطائرة، فإذا بشعور قوي بدأ يستوطن أركان نفسي وكأن الطائرة بدأت تهوي لأعماق سحيقة، وكأن قبطانها فقد السيطرة عليها، وضجّت الطائرة بالصراخ والعويل، وارتفع الأذان والتكبير من كل حدب وصوب، وفي تلك اللحظات، قد غاب عن الأنظار المضيفون، وبدأ العديد من الركاب يقذفون ما في معداتهم مباشرة على ملابسهم، وتعالت صيحات النساء والأطفال والشيوخ، التفت صديقي عبدالله إليَّ قائلًا بأن وجهي أصبح أصفر، وقلت له ووجهك أنت أيضًا، وأضاف قائلًا، على ما يبدو أن الهدايا التي ابتعناها ستسقط معنا، كان صرير أسناننا مسموعًا رغم الجَلَبة الكبيرة التي عمّت أرجاء الطائرة، وكان هناك شخص يجلس بالقرب من الصديق قد طلب ماء وبطانية لكن لم يكن أحد بمقدوره تلبية طلبه في تلك اللحظات. أما الطائرة فكأنها أصبحت سعفة في مهب الريح، حيث كانت تموج في وسط زوابع وعواصف قوية، وقد كانت تصطدم بالرياح العاتية مخلّفة ارتجاجات عنيفة، تهز بدنها هزًا عنيفًا، فتسمع طرقعة مفاصلها، وكأنها أوشكت على التفكك، فتدلّت كمّامات الأكسجين وأصبحت كلعب الأطفال المتأرجحة، فلم ألحظ أحدًا قد تناولها، فكل شيء بدأ يهوي، وكل شيء بدأ يتحرك ويتدحرج في الممرات، الصحون والصواني وكاسات الورق، أصبحت تطير معنا وتسبح تجاه الطائرة.
في تلك اللحظات العصيبة، صرنا نسمع الشهادة من كل مكان، وعلامات الهلع مرسومة على الوجوه، منظر احتضان الركاب بعضهم بعضًا ينمّ عن الإحساس بقرب الأجل والخوف من السقوط منفردين، تشابكت أيدينا أنا والزميل عبدالله، ونحن نكرر كلمة الوداع، ونشتم الساعة التي قبلنا فيها تلك الدورة التدريبية اللعينة، دمعت عينا صاحبي، ولم أصدق ما كنت أراه، فدخلنا في موجة بكاء نخفف من خلالها عن مشاعرنا المختنقة، يتطلع نحوي دقائق وعصرات الموت قد ارتسمت على كامل صفحة وجهه، ثم ما يلبث في غمرة صراع الطائرة مع الرياح الشديدة، أن يمسك القرآن ليقرأ، لكن هل أصبح لديه دقيقة واحدة للتركيز فيما يقرأ؟، كلا، فعيناه كانتا هائمتين، وحركة أجسادنا في انفعال وهيجان، وبالأخص أرجلنا التي تتلاطم مع بعضها البعض، وصرير أسناننا المتزايد، لاحظت حركة عيني زميلي كانتا لا تتوقفان كما أنهما تدوران بشكل جامد، كما أن يديه بدتا مشتبكتين بقوة وذلك بعد إحدى السقطات الشديدة، لم أنتبه له وهو يحاول لفت نظري إليه من خلال كتفه الذي طرق كتفي، فانتبهت إلى أنه فقد الكلام بشكل مؤقت وأصبحت أسنانه البيضاء تتراقص من شدة الهول، أما أنا فكنت أحاول بين حين وآخر أن ألقي نظرات من النافذة، فلا أجد غير أجنحة الطائرة التي تتمايل بنا يمنة ويسرة، وكأن تلك الأجنحة على وشك الانفصال عن جسم الطائرة.
في الحقيقة كنت أحاول أن أبعد عن نفسي تلك الوساوس، لكن الحدث أقوى من محاولة تشتيت الأفكار. كنت أتصور أن الطائرة قد تعطلت محركاتها، أو أن تكون أجنحتها لم تعد تقاوم تلك العواصف الشديدة، لكن حتى تلك الهواجس تتبعثر أحيانًا من شدة صراخ الركاب، ومن النحيب الذي يشق نياط القلب ومن نداء الاستغاثة الذي تسمعه من كل مكان. يتصبب العرق رغم أن الجو كان لا يزال باردًا، أما خفقان ورجفان القلب فكان ينذر هو الآخر بالتوقف، مر على رحلتنا ما يزيد على ضعف الزمن ولاتزال المسافة أو الوجهة غير معلومة، والألم يعصف بنا، تمنيت أن ينتهي هذا العذاب بأي طريقة كانت، الوقت يأكلنا، وصراع الطائرة لايزال في أوجّه، لولا عدة كلمات سمعها الجميع من قائد الطائرة بلكنته الإنجليزية وبصوت مرهق، يخبرنا بالعاصفة القوية التي ضربت المنطقة الشرقية والشمالية من السعودية، أفادنا بأنه حاول الهبوط في مطار الظهران ولم يستطع، وحاول مرة أخرى الهبوط في مطار البحرين وفشل، وأنه متوجه إلى مطار الدوحة، حيث يتعذر عليه العودة إلى مطار الرياض، فقد وصلت العاصفة إلى هناك، وقال نحن الآن على مقربة من مطار الدوحة، إلا أن الطائرة لم تهبط، ولم يكن بإمكانها الهبوط من شدة الرياح، ومضينا نجترّ آلامنا وأمنياتنا في ظروف سيئة للغاية، بعدها ساد الهدوء لدى العديد من الركاب، ليس لأن الطائرة بدأت تستقر، بل لأن العديد أصيب بالإغماء والإعياء، هذا ما عرفته لاحقًا.
أمضينا قرابة الساعتين، والطائرة لم تحطّ رحالها في قطر، وعاد قبطان الطائرة للصمت، والطائرة تستمر في شق طريقها بين الغيوم، لقد كان لدينا بصيص من الرجاء وبعض من الأمل، أما الآن فقد غاب كل شيء، فصاحبي عبدالله لم يعد قادرًا على الكلام، فتلثّم بشماغه الأحمر ووضع القرآن على جبهته، ولا أعلم ماذا حل به، أما أنا فقد كانت عيناي زائغتين وقلبي حسبته قد خرج من القفص الصدري وأنفاسي الملتهبة أصبحت تتقطع، أما يدي ورجلي فقد تنمّلتا، في هذه الفترة قفزت إلى ذهني تلك الإشارات التي يقوم بها طاقم الطائرة، وكيف نقوم بإنقاذ أنفسنا حالة تعرض الطائرة إلى مصيبة، وأخذت أبحث عن سترة النجاة، فهي تحت المقعد، ولكن كيف أجلبها ونحن في تلك الحالة، ما هوّن الأمر نسبيًا هو انخفاض عدد المطبات، ولو أن هويات الطائرة أصبحت أكثر حدّة، والواضح أن الطائرة بدأت تتجه إلى الأسفل بشكل حاد، لكن بثبات، وعندها، سمعنا كلمة أيها السيدات والسادة، نحن نقترب من مطار الظهران استعدادًا للهبوط الجبري، فقد هدأت العاصفة نسبيًّا، إلا أن الأمطار مازالت قوية، وأن قبطان الطائرة لابد له من الهبوط، في جميع الحالات، فوقود الطائرة بدأ ينفد، ويتوجب علينا الهدوء كي نساعده في إنجاز المهمة بنجاح، الطائرة تتجه إلى الأسفل دون تردد، وسط أمطار ورياح قوية عاتية، وهي تشق طريقها بتحدٍّ، أحدّث نفسي في الدقائق الأخيرة، إما أن ننجو من هذه المحنة أو أن نكون ضمن نشرات الأخبار المحلية والعالمية.
وعندما اقتربنا من المدرج، سألني الصديق عبدالله وحبّات العرق اختلطت مع الدموع، الحمد لله، ها نحن نحلّق فوق المدرج، وبانت ملامح الحياة مرة أخرى، أما ركاب الطائرة فقد زادت مناجاتهم وأدعيتهم وتكبيرهم وبالتحديد عند اقتراب الطائرة نحو المدرج أصبحت الطائرة تتمايل كالأرجوحة، حتى لامست عجلات الطائرة مدرج مطار الظهران وسط برك من المياه، أخذت الطائرة تسير على المدرج وهي تترنح بتثاقل، وكانت عربات الإسعاف والإطفاء والأمن، وحشود غفيرة مدنية وعسكرية في المطار، ثم نقلونا إلى قاعة المطار في سيارات خاصة، حينها كنت أرى الوجوه التي عاودتها، تنظر إلى المنظرين والعابرين والعاملين وكأنها للتو تتعرف على الحياة بعد غياب طال انتظاره، كنا نسمع عبارة الحمد لله على السلامة (مكتوب إليكم حياة جديدة)، وكانت سيارات الإسعاف تنقل المرضى والمصابين.
عندما هدأت أجواء العاصفة، وسمح لنا بالمغادرة، استقلتنا سيارة الصديق عبدالله ولا أعرف وصف حالتنا، هل كنا مندهشين أو فرحين أم حزينين ومرعوبين، أعتقد كلانا كان كل ما ذكرت، اختلاجات رهيبة أصبنا بها، فلا شك أننا كنا قاب قوسين أو أدني من كارثة محققة!
ما أبهرنا هو ما شاهدناه ونحن في طريق العودة بالسيارة، الأشجار المقتلعة من الجذور منثورة وسط الطرق وعلى جوانب الشوارع السريعة، والمياه التي امتلأت بها الترع والمنخفضات حتى أصبحت بحيرات تحط عليها الطيور، والوحول تحفّها من جميع الأطراف، وعلى أطراف المدينة شاهدنا خزانات للمياه أسقطتها العواصف، وطارت بالقرب منها الكثير من الملابس التي كانت تنشر فوق السطوح، وصفائح بيوت الفقراء قد تناثرت في كل جانب، واقتلاع وتحطم زجاج النوافذ، وسقوط بعض حيطان البيوت القديمة.
عندما وصلت إلى البيت كانت زوجتي تحتضن أطفالي الصغار، وهي في حالة بكاء ورعب، بادرتني بقولها إن الله قد استجاب إلى دعواتي، وها أنا أكحّل عينيّ مرة أخرى برؤيتك، نظرت إلى حديقة المنزل التي لم تبقَ فيها شجرة إلا وأسقطتها العاصفة، ابتسمت إلى زوجتي وقلت لها وأنا أشير إلى الزرع المهشم: هذا شيء مقدور على إصلاحه طالما كتبت لنا الحياة، أما الصديق عبدالله فقد أدار مفتاح سيارته متوجهًا إلى بيته ودموع الفرح تملأ مقلتيه الحائرتين!