13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

سيرة أرض تروي حكاية المؤرخ الجنبي.. في القديح 

اجتمع محبو المؤرخ والباحث الراحل عبد الخالق الجنبي، من المثقفين والشعراء والأصدقاء، مساء الجمعة 13 شعبان 1445هـ،  في حسينية الرسول الأعظم (ص) بالقديح، ليبوحوا بمشاعرهم تجاه الفقيد، ويروون لقطات من حياته ومواقف جمعتهم به.

وبدأ الحفل الذي نظمته أسرة الفقيد الجنبي بآيات من القرآن الكريم، ثم مقدمة عن الباحث الراحل، قدمها عريف الحفل الشاعر محمد الماجد.

الشاعر عدنان العوامي
وفي كلمته عن الراحل الجنبي قال الشاعر عدنان العوامي: "أن ينشأ امرؤ في بلدة فقيرة من الثقافة والعلم والأدب، وتقذف به المشيئة في بيئة غنية بها جميعًا، فينبغ متفوِّقًا؛ فهذا ليس فخرًا، ولا مجدًا، بل هو المتوقع المظنون، إنَّما ضمُّ الفخر من أطرافه، وتسنَّم المجد في أعلى ذُراه؛ أن تكون نشأته في وسط يعج بالقامات السامقة، ومحيطه تتزاحم فيه المناكب الشامخة فيأتي مجلِّيًا في أول الحَلْبة، سابقًا في مقدم الصفوف".

وأضاف العوامي "هذا إذا كان سليمًا معافى من الأذى، صحيحًا من البلوى كأخدانه الأصحاء، فكيف به وهو يشب قرين الوجع، وينمو سمير العلل كما هي حال الراحل الغالي عبد الخالق تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه!".

وتابع العوامي في كلمته: "في جانب الصلابة وقوة العزيمة يعيد عبد الخالق إلى الذاكرة شخصيات كبيرة لم تمنعها الإعاقة من أن تشق طريقها إلى النجاح، بل إلى التميز، مثل طه حسين الأديب الشهير، وعبد الله الغانم أول مدير لمعهد النور بالمملكة، وبولس سلامة الشاعر الملحمي اللبناني، وجميل زغيب طبيب الأطفال المشلول بالكامل إلا من حركة عينيه، ومن المملكة الفنانة التشكيلية هيلة المحيسن، المولودة بلا يدين".

الدكتور نزار الشيخ
أما الدكتور نزار الشيخ، فقال في كلمته عن الباحث الراحل الجنبي: "عرفته باحثًا متمكنًا في فن البحث العلمي، في المعالم الجغرافية القديمة في المنطقة الشرقية، كان أحد أعمدة البحث العملي لا يعرف الكلل ولا الملل، لا يهدأ له بال حتى يصل إلى مبتغاه في البحث العلمي، وإن وجد المسألة مغلقة وهذا ما يحصل لكثير من الباحثين نبّه في بحثه على أهمية المتابعة فيها، بعد أن سهل الطريق إليها، لقد تميزت كتاباته بالروح الأدبية مع السلاسة في تناسق الأفكار، وفي المجال الذي كتب فيه لم يكن له مقارن من حيث الدقة وإعطاء الفكرة حقها."

وأضاف الشيخ: "لقد قابلته عدة مرات كان عظيم الإكرام لضيفانه، بشوشًا لهم وإذا اعترض على فكرة ما، اعترض بلطف وأدب عظيم، بل في كل مرة أزوره أجد الجديد عنده من البحوث العلمية والنتائج الجديدة، لقد عرفته محبًا للخير صبورًا على البلاء مع أخلاق جمة وتواضع كبير، اسأل الله عز وجل أن يرحمه، وأن يجزيه خير الجزاء على ما قدم من بحوث علمية في مجال البحث العلمي، وأن يجعل مسكنه في أعلى جنات الخلد".

وأعقب ذلك إلقاء الشاعر حسين سهوان قصيدة نعى خلالها الراحل الجنبي، قال في مقدمتها "بَعْضٌ مِنْ سِيْرَةِ أرْض، من أي قافية في دقائق أبتديك أيها الشاهق في سمائنا، وبأيها أختمك وأنت فهرسة التاريخ المطلِ على عيون الظلال الملونة، تمد أجنحة المواقيت الأزلية باحثًا ومؤرخًا، محققًا وأديبًا، يسافر فيك الشعر العتيق، فتغيب حضورًا في ذاكرة تفاصيلها الأسئلة المعلقة في متن المجاز، فنكتب خجلا بعضًا من سيرة أرض!".

أما أبيات القصيدة فجاء فيها:
في ذروةِ الشعرِ نصٌّ باسمه نَطَقَا كأن شيئًا بأرض الخط قد بَرَقَا

كأن وحيًا من التاريخ عَنْوَنَهُ (بسيرة الأرضِ) فانشق المدى وَرَقَا

كأن ميلاده تاروتُ.. تحضنها الـ كيتوسُ بينهما ما كان مُتَفَقَا

هذا المقام فلا تدري وحاضرُهُ مَنْ منهما الحبُّ إن ماجا وإن غرقا

جئنا وأوراقنا في لحظة نثرت تنعى أبا طاهر والنعي بعض لِقَا

جئنا يوحدنا وجه القطيف إذا بالشعر أرهقه حب مضى وبقا

وشاهد الحضور بعد ذلك فيلمًا وثائقيًا عن حياة الراحل الجنبي يسرد رحلته الثقافية والأدبية، وأبرز كتاباته وأبحاثه، كما تناول الفيلم الجانب الإنساني من الباحث الراحل.

الشيخ محمد الحرز
من جهته، تناول الشيخ محمد علي الحرز في كلمته خلال الحفل، المنهج البحثي عند المؤرخ الكبير عبد الخالق الجنبي، قائلًا: "نعيش ذكرى فقد أحد فرسان التاريخ ورجالاته الأفذاذ، صاحب الفكر الوقاد، والعقل النقّاد شخص سبق من كان قبله وسيتعب من يأتي بعده؛ إنه المؤرخ الكبير عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي، الذي ترك في النفوس صدعًا وفي كتابة التاريخ فجوة ليس من السهل رتقها".

وأضاف الحرز: "تمتع أخونا وأستاذنا الجنبي بمجموعة من السمات التي تشكل شخصيته جعلت منه المرجعية التاريخية للكثير من المهتمين بالشأن التاريخي، فقد عرف الجنبي كمرجع تاريخي وبالخصوص للقطيف والأحساء والبحرين، يلجأ إليه طلاب الجامعات والباحثون من داخل المنطقة وخارجها، بما يمتلكه من ثقافة واسعة واطلاع كبير مع ذاكرة حديدية، وقدرة على استحضار المعلومة جعلته صاحب نظرة ثاقبة ورؤية واضحة في البحث التاريخي".

وشدد الحرز على أبرز سمات الراحل الجنبي التي تمثلت في المصداقية، ومنها المصدر المعتمد، والتحليل العلمي، وعدم قبول المشهور إذا كان لا يستند على دليل أو يختلف مع الحقائق العلمية والتاريخية، وقال: "هذا المنهج كلفه الكثير من المناوئين والمتحاملين عليه، وكذلك الثقافة الشمولية التي عرف بها الجنبي، والذكاء التاريخي الذي تمثل في الإبحار في التاريخ، وهضم المعلومة، وقوة الحجة".

وأكد الشيخ الحرز أن الراحل الجنبي عُرف عنه ارتباطه بالأرض ووطنيته، فهو لا يداهن، كما عرف عنه الإيمان بمنهج الاختلاف، والتفرّد.

الدكتور مرعي الشخص
أما الدكتور مرعي الشخص، فقد قال عن الجنبي: "نجتمع هذا اليوم في ذكرى أربعين انتقال الروح الطاهرة للأستاذ عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي، والتي لا أشك أنها مسرورة بما صنعت وهي اليوم مسرورة بما نصنع من اجتماع من مختلف المناطق على الحب والوفاء".

وأضاف الشخص: "كانت من محاسن الصدف وجميل الأقدار أن تعرفت على الأستاذ عبد الخالق، حيث كان اللقاء الأول تقريبًا في عام 1422هـ، حينما كان يعمل في قسم التعليم الطبي المستمر في مستشفى الدمام المركزي".

وتابع: "امتاز الأستاذ المؤرخ بالأخلاق العالية والبشاشة ومساعدة الآخرين فيما يتقنه من أمور، كان الأستاذ متعدد المواهب، وواحدة من الأمور التي كان يتقنها، رحمه الله، المعرفة المتقدمة في أمور الحاسوب وبرامج الكمبيوتر، فكان إذا تعطل على بعض الأطباء برنامج في كمبيوتر أو حصل خلل في محاضرة قد أعدها، فإنهم كانوا يقصدونه لحل ذلك الإشكال وكان في الغالب يعالج لهم ذلك الخلل، وهو نفس الأمر الذي كان سببًا في تعرفي عليه حيث أسعفني فيما طلبته من خدمة".

وأكمل: "من الخصائص الأخرى للمؤرخ حبه للوطن والمواطن مع السخاء المادي والمعنوي، أو لنسمِّه السخاء في كرم الضيافة، والسخاء المعرفي، وحبه لوطنه بل واسمحوا لي أن أعبر عن الأبوية في ذلك الحب وخصوصًا للجانب الشرقي منه".

تلا ذلك قصيدة ألقاها الشاعر شفيق عبادي، جاء في أبياتها:
تقاسمَنا    حرفًا     وأدمنتَه     معنى وسافرتَ   في   مغناه   قيثارةً   لحنا

فلولاك     ما نارُ   القصيدةِ   أورقتْ نبوءاتُها    فاشتاطَ    قنديلُها     حُزْنا

مشينا لها لا دربَ   يلبسُ   خطوُنا ولا عمر يدري ما استعار النوى مِنَّا

نوارس من   أمس   الغدير تشكَّلتْ قوافلُها   حتى   أناختْ    به الظعْنا

بلى قد   بذرْنا جدولًا من   ظلالِه تثائبَ   فجرٌ كان   من   قبله   ظنَّا

بلى قد عصرْنا غيمةَ الروح خمرةً بأقداحِها كم أغرت الإنسَ والجنَّا

بلى قد نصبْنا   الليلَ   فخَّ قصائدٍ وكم قمرٍ من غيب   أحرفها   صُنَّا

بلى يا رفيقَ الحرفِ قلتَ ولم تزل هنا منذ كان الشعر في   وحيه  كُنَّا   

ورثاه الصحافي حبيب محمود بكلمات من ذكرياتهما معًا تداخل فيها النثر والشعر، قال فيها: "وحين خادَدْتُه مهنئًا بالسلامة؛ قال: كان عليك أن تقول رثائي!، "أهَوْ عنّي" يا أبا طاهر؛ فبعد أزيَد من ثلاثين حولًا من تلك المُخاددة؛ صرتُ مثلك، أبعد ما أكون عن هراءِ الشعر، وغُثاء مَجازاته، وقرَفِ منصّاته، ورقًا، ومِنبرًا، وإلكترونًا".

وأضاف حبيب محمود: قبل أن تتفرّغ لسيرتك الأهمّ، كنتَ تتوعّد الآتي من العمر: قريبًا ستنفجر الشرنقهْ ويخرج منها فراخ السلام! صدقني؛ حتى أنا كنتُ أردد "قريبًا ستنفجر الشرنقه"، كلما تبرمتُ، حتى من تعطلي في شارعٍ! ولكنّ الشرنقة انفجرت يا عبدالخالق. انفجرت، "حياة كف العباس" انفجرت، لم تنفجر في "البلبل والناقوس"، ولا "الكابوس المخيف"، ولا "العاصفة الهادئة"، ولا "البركان الهادر"، ولا "حتى مهد الحزن"، ولا أيّ من وُريقاتك "المتفجرة" التي كانت تستفز محمد الماجد، أو ترجُّ حساسية طبلة أذن محسن الشبركة وهو يُجلجل باسمٍ رباعيٍّ: طاهر عبدالخالق عبدالجليل الجنبي!.

واختتم كلمته راثيًا: "لم تنفجر هنا يا عبدالخالق! ألم تنتبه إلى أن موتك كان زلزالًا؟ وأن مشروعك كان فتحًا؟ وأن "رشالا" كانت تحية؟ وأن رثاءك أكثر ضآلةٍ من تلك الشرنقة؟".

وقبل النهاية؛ تسلم الشيخ حسن الجنبي متحدثًا بلسان العائلة وألقى كلمة تضمنت: موقع المرحوم في أسرته، وما رآه منه في طموحاته، وآماله وإنجازاته، وشكر اللجنة القائمة على الحفل  وشكر المجتمع الذي أبدى تفاعله  وكل من ساهم في التخفيف عن أهله في مصابهم بحضوره أو كتابته أو إظهار مشاعره.

الخاتم بصوت الخطيب سعيد المعاتيق
وكانت عائلة الجنبي قد وجهت الدعوة إلى حضور حفل تأبين المؤرخ عبدالخالق الجنبي، مساء الجمعة 13 شعبان 1445هـ، في حسينية آل شهاب، شرقيّ البلدة.

ويُعدّ عبدالخالق الجنبي من أهمّ الباحثين التاريخيين في المنطقة الشرقية، ولد في قرية القديح يوم الاثنين 9 ربيع الثاني 1384هـ، الموافق 17 أغسطس 1964، وكان الابن الرابع لأبويه، وقد نشأ في حضن والديه في القديح إلى أنْ بلغ الخامسة من العمر حيث كان موعده مع فقد رجله اليُسرى إثر إصابتها بمرض السرطان بعد إصابة سقوط.

وفي السابعة من عمره، انتقل مع والده وأسرته للسكن في حي (الزُّرَيْب) من قلعة القطيف لمدة عامين، ثم انتقلت الأسرة مجددًا للسكن في حي الوسادة لمدة ست سنوات، وبعدها انتقلت للسكن في حي الفتح بجزيرة تاروت (الدخل المحدود)، وبقي فيه حتى وفاته.

ألحقه والده بالكُتّاب في عمر الـ6 سنوات، فحفظ بعض السور القصار من القرآن، وفي عام 1393هـ (1973م)، التحق بمدرسة الفلاح الابتدائية بالقطيف، فدرس فيها المرحلة الابتدائية من الفصل الأول إلى الفصل الخامس الابتدائي وبعضًا من الفصل السادس حيث انتقلت الأسرة للسكن في حي الفتح، فأكمل هذا الفصل في مدرسة الشاطئ الابتدائية بالقطيف لينهي المرحلة الابتدائية فيها عام 1399 للهجرة (1979م).

التحق "الجنبي" بمدرسة القطيف النموذجية المتوسطة، فدرس المرحلة المتوسطة فيها، وتخرّج فيها عام 1402 للهجرة (1982م) ليلتحق بعدها بمدرسة القطيف الثانوية، فأنهى المستويين الأول والثاني الثانويين، ثم أكمل دراسة الفصل الثالث الثانوي بقسمه الأدبي، ونال شهادة هذه المرحلة في العام 1409 للهجرة (1989م).

وفي العام ذاته التحق بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، فدرس فيها سنتين ونصف السنة، ولم يكمل دراسته بسبب ظروف صعبة مر بها! لكنه أكمل سيرته الأدبية التي بدأها شاعرًا، فانهمك في قراءة الكتب والبحوث، ولاسيما تلك المتعلقة بالتاريخ والآثار مما كان له دورٌ كبير في توجهه إلى كتابة البحوث التاريخية التي طبع له الكثير منها.

وفي عام 1415هـ (1994م) التحق للعمل بوظيفة حكومية في دار التوجيه الاجتماعي بالدمام لمدة سنتين، ثم في عام 1417هـ (1996م) التحق بالعمل رسميًا في وزارة الصحة.

مؤلفات
قدم "الجنبي" العديد من المؤلفات، من بينها هجر وقصباتها الثلاث المُشَقَّرُ والصَّفَا والشَّبْعَاْنُ ونهرُها مُحَلِّم، وجنايات مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين على ديوان ابن المقرَّب، وقبر الآجام، وجرّه مدينة التجارة العالمية القديمة، وجواثى تاريخ الصمود، والديوان المصوَّر لشعر علي بن المقرَّب، والحسين بن ثابت القطيفي وقصيدته في قبائل وبطون قبيلة عبد القيس، و"تحقيق شرح ديوان ابن المقرَّب".



error: المحتوي محمي