17 , يوليو 2025

القطيف اليوم

ماذا بين البَان والسدر؟!

قبل سنوات زرعتُ صنفين من الأشجار، أشجار سدر وبان واليوم يراودني سؤال: لماذا ذكر هاتين الشجرتين الشاعر الشيخ صالح بن عبد الوهاب بن العرندس المعروف بـ(ابن العرندس الحلي) في قصيدته التي مطلعها:
طَوايا نِظامي في الزَّمانِ لها نَشرُ
يُعطِّرُها مِنْ طيبِ ذِكراكُمُ نَشرُ

الشاعر الحلي المتوفى سنة 840 هجرة/ 1436م ليس أي شاعر، فهو عالم وشاعر فحل وجهبَذ، فهل يا ترى ذكرهما فقط من أجل القافية وهو بحر المفردات؟ أم لأنهما من الأشجار التي توجد في الحلة، في دولة العراق - محافظة بابل - وهي بيئة مناسبة كما بيئتنا بمناخها الصحراوي، قليل الأمطار، لأشجار السدر والبَان ما دعاه لأن يقول البيت التالي من القصيدة دون تفكير:
وسالتْ عليها مِن دُموعي سحائِبٌ
إلى أنْ تَرَوّى البانُ بالدمعِ والسِّدرُ

تقترب من شجرة البان وهي مليئة بعناقيد ثمارها الخضراء الطويلة تنثني وتنعطف: أنا الدواء والغذاء، أنا الطبيب. لا تلمس أغصاني، أنا ميّاسة آتيك بالإشارة. أنا الصديقة الرقيقة الناعمة لا أحمل حقدًا ولا شوكًا. تغنى بها الشعراء وأطلقوا عليها اسم شجرة الحبّ أو شجرة غصن البان لأن قامتها طويلة ممشوقة. وصفوا المرأة بأنها كغصن البان إذا كانت طويلة وعودها مفرود. ابن الرومي يقول حين يذكرها:
غصنٌ من البانِ في وشاحِ ** ركَّب في مَغْرِس رَداحِ
يهتز طوعًا لغير ريح ** والغصن يهتز للرياحِ
غصن ولكنه فتاة ** بديعة الشكلِ في الملاحِ

ذكرهَا الشريف الرضي رحمه الله في قصيدة تغنى بها كثيرون:
يا ظَبيَةَ البانِ تَرعى في خَمائِلِهِ ** لِيَهنَكِ اليَومَ أَنَّ القَلبَ مَرعاكِ
وعنترة العبسي يقول:
يا طائِرَ البانِ قَد هَيَّجتَ أَشجاني ** وَزِدتَني طَرَبًا يا طائِرَ البانِ

أما شجرة السدر فهي التي ثمارها تباع هذه الأيام في الطرقات، فاكهة شهية وتأتي بأحجام عدة. عرفناها منذ أن فتحنا عيوننا في نخيل القطيف وبساتينها بثمارها صغيرة الحجم قبل أن تأتي أصناف حجم ثمرها في حجم التفاحة الصغيرة. تنضج ثمارها في شهر فبراير/مارس. عنيدة لا تموت، تقطعها كل موسم أستقوي. خذ ثمارها وحذار من شوكها الذي لا مفر منه إن اقتربت منها! صديقة وفية وعدوّة صلبة!

فكرة الصداقة والعداوة - أقصى اليمين وأقصى اليسار - في هاتين الشجرتين والنعومة والقسوة؛ حدا بالشيخ صالح الحلي أن يجمعهما في عجز بيت شعر واحد. كأنّ الشيخ ابن العرندس يقول: بكيت ورويت من دمعي العدوّ والصديق، المبغض والمحب، القريب والبعيد! وما يدل على هذا استعماله هذا النوع من التضاد في أبيات أخرى؛ عسر ويسر، جبر وكسر، رقة وغلظة، فقر وغنى، عبد وحر وغير ذلك من الكلمات.

ربما نجد في القراء شاعرًا يغنينا برأيٍ سديد، فالشعر لغة لا يفهمها ولا يفك رموزها إلا الشعراء الذين يسخّرون فنهم ولغتهم الجميلة في سبيل أهدافٍ سامية. كذلك أوصي الأصدقاء الذين لديهم رغبة في زراعة أشجار مثمرة أن يزرعوا هاتين الشجرتين. شجرتان كثيرتا الفوائد وقليلتَا الخدمة!


error: المحتوي محمي