
تنتصب الجازرة بجلال قدرها كملكة متوجة في ربوع الدواليب، سواعد شيدتها وعقول صنعت أدواتها بحساب وقياس، هب العارفون ذوو المهارة وشدة البأس، لتفعيلها كل يوم بفن ومراس، متيمين بحبها ينسون أنها حرفة إبليس، موسيقاها تطرب الوجدان، (نينين بف ..نينين بف) نغمات تتوالى قبل الفجر، نزولًا وطلوعًا بردح الثور، إيقاع أقدام على الخب، دوران منجور ودراجة، بجر حبل السريح وحبل لرشا، هي أوتار عزف وصدى، بغطس دلو في جوف الركية، إيقاع رفع وسكب على الجابية، ماء يتدفق، عرق يتصبب، وجوه تتبسم، شفاه العاملين تتبتل، يدعون ربهم بكرة وعشية "حي على خير العمل" يقين إيماني ناموس حياة، أهل العزم يباشرون عملهم قبل تنفس الصبح، لا يعرفون للكسل محلًا، بكل الحواس متيقظون من دون تراخ، لا تهاون، لا استئذان، هم والعمل صنوان، العمل قبلتهم، العمل حياتهم، العمل حاضرهم، العمل مستقبلهم، ساعون إليه منذ نعومة أظفارهم وإلى أن يبلغوا من الكبر عتيًا، كد وسعي يفلق أحجار الصبر برسم مواويل العشق للأرض، رجال تسري في جيناتهم حب العمل، بمباركة دعاء الأمهات ومساعدة الزوجات، شركاء العمل في البيت ومساحات الزرع وتربية الحيوانات.
ما أعجب تضادات الدنيا لأناس تكدح وتشقى وأناس على موائد المستضعفين تقتات، من يسرق من وجوه الطيبة أحلامهم، من يقض مضاجهم، من يوجعهم تحت جنح الظلام؟
من بين فضاءات الدواليب تتناثر الحكاية والرواية، حكايات عذبة ومرويات موجعة وما بينهما كلام مستور، عبر لسان الحاج عبد الله علي العقيلي "أبو حسن"، مسرورًا بالقص ونثر "السوالف" كلما أوغل في "سالفة" تداعت له "سالفة" وراء "سالفة"، مشاهد تتوالى باسترجاع ذاكرته المتخمة باللقطات والصور، كأنهن مرايا متعاكسات، مغروسات كأشجار وارفة في أديم دواليب الشمال، حاملة شجونًا من الحب والعذاب، وقائع ليست من ضرب الخيال، سيناريوهاتها حدثت قبل قرن ونصف القرن من الزمان، ممزوجة بالكد والتعب والنهب، متلونة بالآهات والأنين والهيام، معطرة بأريج الزهر وشذى الورد وقطوف الدانيات.
هي الدواليب تفاخر بمزروعاتها النظرة، تسقى من مياه باردة، ماء الركايا المتلألأ انعكاسًا بنجوم الليل وشمس النهار، إن توقف الناضح لحظة، يصيح الصوت مدويًا "وين الماي وينه"؟، تخبرنا "الجازرة" عما جرى وصار عن مشاهد الكر والفر.
ففي فجر يوم قائظ أبكر الحاج حسن بن سالم المكنى بـ"أبو عيسى" والحاج صالح من منزلهما الكائن بحي الخارجية، ذاهبين لدولابهم "دولاب البيت" المواجه "لدولاب لگويصد"جنوبًا، يفصل بينهما معبر ضيق -شرق غرب- ونبع الماء بين الدولابين يسمى "الركايا المتقابلين"، وهما من أشهر الركايا وردت عنهما بعض الأساطير.
الحاجان أطعما العجول والثور الكبير المدرب على الجازرة، وجبة من ثلاث وجبات تسمى "تنفيع الحياوين" الذكور منهم مأواهم صيفًا "زريبة الدولاب" بينما الإناث مرتعهن على الدوام صيفًا وشتاء في حظائر المنازل ترعاهن النسوة من علف وسقي وحلب، البقرة الولادة الحلوب يشار إليها "بخزنة البيت" عزيزة عند أصحابها تجاورهم نومًا، بألفة ودلال وكأنها واحدة من أفراد الأسرة، لأن كرمها وافر من حليب ولبن وروب ودهن، وكلما حملت وولدت تجتاح البيت بشائر فرح بقدوم الخير، فذريتها تقسم بين بيع وعمل، الإناث لهن الحظوة والعجول تدرب لأعمال الدولاب، البقرات تسر الناظرين تستظل بظلال نخلات البيت أمان من الجوع والفقر، رعاتهم المكافحون والمكافحات الكادحون والكادحات حسب وصفهم: "مكدنا على الله وعلى البقرة".
بعد الإطعام الفجري أمسك الرجلان الثور يقودانه نحو الجازرة واضعين عليه عدة الشغل، وعلى بركة الله ابتدأ عملهم "حجي صالح يسگي" مع حراك الثور في "الخب" نزولًا وطلوعًا، و"حجي عيسى السگاي" يراقب وصول الماء، يفتح ويغلق مداخيل "السمط"-المجرى- الواصل "للشروب" أي ضواحي الزرع.
همة رجلين كانا أول الطالعين قبل قدوم أصحاب الدواليب، معزوفة "المنجور" وترنيمة الثور تصدح في هداءة الليل وجل المزارعين نيام، لكن عيون السراق تترصدهما خفية، يتحركون على قمم أصابع أقدامهم من خلف "سواتر الخنادق" وهي فواصل ترابية تفصل الدواليب عن بعضها بعضًا، انقضت سرية من خارج المنطقة بهجمة موحدة وأمسكت بالسگاي أبو صالح، "لوت" ذراعيه خلف ظهره، ويد على فمه لكيلا يصرخ، حالًا توقف صوت المنجور وانقطع الماء، راح "أبو عيسى" وهو في البعد يحدث نفسه: "هه هه .. ويش فيه المنجور مايصيح والماي انقطع " رفع صوته ينادي على أخيه: "اخوووووووك ويش فيك ويش صاير عندك، سلامات"، لم يسمع جوابًا لندائه، تمتم بـ"لا حول ولا قوة إلا بالله" قادم لأخيه يناديه، استشعر أن شيئًا ما حدث للجازرة باحتمالية عطب أصابها أو الثور ركبه العناد أو أخوه غفا ونام، وبينما هو آت مهرولًا وإذا به يسمع هذرًا بلكنة غير محلية تتعالى لمح وسط الظلام رجال تحيط بالجازرة، قال: "هاه هاه ويش عندكم"، ردوا عليه " اص اص"، ثم أمسكه أحدهم من رقبته قائلًا له "نبي لعجول"! فطنة لمعت في خاطره مثل البرق، قال لهم وهو شبه مخنوق "ماعليه، لكن كل عجل عليه قفل خلوني أروح البيت أجيب ليكم المفتاح" تركوه، وقبل أن يتحرك فتح ربطة حبل العجول متروكًا بحنيته "چفسة السفة" التابعة للخزام وأيضًا سحب الرسن المعقود في "اللخية " وهي حلقة حبل مثبتة في أرضية الزريبة، سلمهم "رسن" كل عجل في أيديهم حتى يطمئنوا ويحفظ نفسه من الأذى بانتظار إحضار المتاح لهم، ذهب أبو عيسى بن سالم سريعا قاصدًا "رجال النطر" وهم حراس أهل الخارجية المرابطين كل ليلة في فناء "حسينية البيابي" تحسبًا لاندلاع حريق -لا سمح الله- وردعًا للسراق الذين يغيرون ليلًا "نواطير" تتناوب فيما بينها حفظًا للمنازل والأهالي عن الشرور المحدقة.
المسافة بين دولاب البيت والحسينية لا تتجاوز 150 مترًا، دخل عليهم وهو يشهق ويزفر أنفاسًا متواصلة يستنجد بهم: "يااخوان لحقو علينا طبوا الدگاگة دولابنا يبغوا يبوگوا عجاجيلنا"، "ويش تقول ، احنا ليهم "، انطلقوا سريعًا كالريح ، واحد في يديه حطبة وٱخر عجرة وبعضهم يلوحون بالمناجل، أصواتهم تسبقهم : "عندك قال الفاني عندك ، حرامييييي ، جوده ، حراميه، حگطوا عليهم ، هاه مني لا مناك، اهنيه هناك ، چفسوهم ، عجلوا عليهم لابارك الله فيهم " ، فزعة رجال أقبلت كالرعد، ردح أرجلهم زلزلت الأرض، أرهبت السراق، ارتعدوا خوفًا قبل وصولهم، أرادوا أن يغنموا أي شيء فسحبوا العجول سريعًا كي يظفروا ببعضها، متجهين بها غربًا نحو "المگطع" لكن كل "رسن" ظل في أيديهم خاويًا من دون العجول، حيوانات فزعت وهامت على امتداد الدولاب بخواء متواصل، شطارة "أبو عيسى" الذي أوهمهم قبل إحضار المفتاح بفتح كل الأحبال المربوطة وسلمهم إياه، لكن كل "اخزام" جعل منه ربطة "جردة" عقدة كاذبة، يتحرك الثور لخطوات، وما إن يشد "الرسن " عن آخره حالا تستوي "الچفسة" ويستقيم الحبل فينفك عن رقبة العجل.
حيلة مزارع متمرس بربطات الحبال بفطنة وبرود أعصاب واستنفار "رجال النطر" أنقذت حلهم وحلالهم من أطماع "الدگاگة".
حين بان نور شمس الصباح شاهد العابرون أوصال حبل ملقاة على امتداد درب "المگطع"، تلك آثار مجموعة قدموا من منطقة خارج المدينة ورجعوا على أعقابهم بخفي حنين، لكن غاراتهم لا تنتهي فالنهب والسلب ديدنهم.
صوت أنغام المنجور مثل جرة أوتار"كمان" يجر أحزانًا عن قصص مأساوية فعلها السراق المتوحشون سيظل بعضها مغيبًا في قعر الركايا، يأنف السرد البوح بكل شيء إلا لممًا.
مروية تتلون أسفًا وتعجبًا وبشيء من اللوم، واليقين المستور في الصدور، أفاض بها تفصيلًا الحاج أبو حسن عبد الله علي العقيلي عما جرى لجده الحاج علي أبو رضي العقيلي مع أخيه الأكبر حجي مكي العقيلي، فقد استيقظا قبل أذان الفجر وخرجا من سكناهم بالخارجية متجهين شمالًا لدولابهم "لجويزرة" -الجزء الغربي من حي فريق الأطرش قبل نشوئه بعقود -أسبغ الأخوان الوضوء من ماء الركية البارد وعلى وقع أذان الصبح، توجها للقبلة ذاكرين الله في خشوع، وبعد أن فرغا من صلاتهما راح يحدثان بعضهما "أخوك ما سمعنا للحياوين أي صوت، ما هو عادتهم"، قاما مبتدئين روتينهما اليومي، بتجهيز طعام الحياوين من "گت وفخارة" -عومة وتمر ممروس- حين دخلا الزريبة وجداها خالية، جحظت عيناهما، ضربًا كفًا بكف وأخرى طرقات على الرأس والصدر، لطمية حزن عند الفجر، حيارى لا يلوون على شيء، دهشا من تهدم "لحضار" جدران خوص الزريبة، ووجدا آثار أقدام على "المرس" - روث الحيوانات-، قال حجي رضي لأخيه حجي مكي "ياخوك باگونا، لا بارك الله فيهم" رد عليه "إنا لله، الله ينتقم منهم، ما نسلم منهم"، ومتسائلًا "هذا چم دولاب تخروه من برودة إلى اهنية ومايندرى يمكن باگوا بعد، أو ماحصلوا شيء وجوا لدولابنا وصارت صيدتهم عندنا"، لحظات وإذا بصوت جارهم حجي عبد الله بن سالم القائم على دولاب "الأمير" يصرخ "يامسلمين انباگت حياوينا"، تقابلوا وكل يشكي الحال، اتضح بأن الغرباء سرقوا الدولابين معًا بحصيلة 6 عجول من كل دولاب ومن بين عجلين أو ثلاثة مدربين على عمل الجازرة، بعد أن لاح نور الصباح "ضحضحت الدنيا" شاهد أبو رضي ثورًا رابضًا من حيواناتهم خلف الزريبة عند ناصية الدولاب!، قادوه نحو الزريبة مقدمين له "الفخارة" والماء، تفقدوا جسمه ورشفوه ترشيفًا، وحمدا الله بأنه لم يسرق، لأنه أمانة عندهم، دار الكلام بين الأخوين عن خسارتهما الفادحة وسؤال الدهشة حاضرًا باستقراء المشهد الذي حدث في جنح الظلام.
كيف فرط الغزاة في أخذ هذا الثور معهم وهم لم يبقوا على شيء! لماذا تركوه؟ من الأثر ليس بخيارهم إنما حاولوا سحبه بالقوة، جرجروه بعنف وعلامات شد السفة واضحة على رقبته"حزوز "، لم يقدروا عليه، وربما نطح أحدهم فهو ثور سمين "بشمان"، بمثله كيف يؤخذ ولا يؤخذ، تركوه بعد أن أعجزهم وفر منهم وبقي يحوم في الدولاب، العارفون به يدركون كيف نجا الثور من السرقة وبقي وحيدًا من دون العجول، وهذا عائد لسببين، يوضحهما الحاج عبدالله العقيلي بدقة، لكي نقترب من نبض المشهد الذي مضى عليه أكثر من 150 عامًا واضعًا كلامه حرفيًا إلا من إيضاحات وتعديلات طفيفة، حيث يقول: "الثور انهد من عندهم، لأنهم ماشاخوا عليه -يتنهد قليلًا ويتمتم، سلام عليكم أهل البيت - أولًا: هو فيه اشخاصة لأهل البيت " أوقفته عن الاسترسال مستوضحًا عن معنى "اشخاصة"؟ فاجاب: "أنا جاينك في الحچي، الأول كل راعيات البقر ينذروا، خصه إذا والمت، مثلًا جاية وفاة الزهراء، والبقرة بتوضع في نفس يوم الوفاة أو أية وفاة لأحد الأئمة، شوف عاد جابت عجل أو عجله، يقول راعياتها إن شاء الله السنة الجاية يثمن وينطلع ربع أو فلف قيمة المولود إلى مأتم إلى حسينية إلى قراية، ينطوا راعي المأتم سوى عادة نسوان أو رجال أو يتقسم المبلغ على مأتمين أو فلافة، وهذا الفور اللي مانباگ لأن فيه اشخاصة للحسين بن علي"!
ظللت أتأمل ما يقصه متجاوبًا بإعجاب عن تلك النفوس الأبية السخية متحاورًا عن ماهية وطبيعة النذر هل هو ضمن الولادة الواحدة فقط؟ أجابني: "اهل لاول مايقروا من ضعفهم بس يسووا اشخاصة، خصه اللي يربوا حياوين، خلاص ولدت هالبقرة جابت عجل مرة وحدة تطلع عنها لشخاصة داير سنة، وإذا بعد عنده بقرتين أو فلاف وهذه ولدت يوم وفاة الكاظم، أو علي بن موسى الرضا، أو مرات تولد البقرة قبل أو بعد عشرة محرم، يايجعلوها باسم القاسم أو علي الأكبر أو باسم الحسين بن علي، وإذا صادفت يوم الأربعين، خلاص تطلع بعد اشخاصة، عاد عندهم بقرة وحدة لو فلاف، هم مايرتاحوا إلا إذا طلعوا لشخاصة، ولا يقولوا إلى صاحب المأتم هذه البيزات مال اشخاصة، هاكم المكتوب ويسكتوا".
راح الحاج عبد الله العقيلي يوضح أمرًا آخر ليس متعلقًا بيوم الولادة، يحدث أحيانًا عند بعض الأبقار تأخر في الحمل برغم محاولات تلقيحهم من قبل الثور عدة مرات، دون معرفة السبب برغم الثور له ماض طيب في عملية التلقيح، أحيانًا يؤتى بثور آخر لعل وعسى تلقح البقرة، وأثناء عملية التزواج يدعون جهرة وخفية: "متباختين بك يا باب الحوائج" بقلب صاف ويقين مطلق، يغير الله حالهم لأحسن حال، وعلى نياتهم يرزوق.
بعد شهر ونيف ينتفخ بطن البقرة شيئًا فشيئًا مكثرين بالصلاة على النبي وآله، وحتى لو تعسرت بقرة ما أثناء الطلق تلهج الألسن: "متباختين بك يابو الفضل العباس لا تخيبنا".
لحظات وينزل الجنين من بعد شدة وعسرة من ظلام بطن أمه الدامس إلى نور الدنيا، تلحسه بلسانها وما إن يقف للحظات يقترب ليشرب من ضرعها، ويرافقها ويرعى معها في حظيرة الدولاب.
الطريف بأن أصحاب الحيوانات لا يفعلون ذلك عند ولادة الأتان أنثى الحمار!.
وأضاف الأخ حسن "فيصل" ابن الحاج عبد الله العقيلي، بأن بعض مواليد الأبقار تصاب بعجز عن الحركة أو مرض يلم بها وحيث لا يوجد طب بيطري يتفحصهم ويعالجهم، يلجأ أصحاب الأبقار للنذر، فهو وسيلتهم الوحيدة مع بعض الأدوية العشبية البسيطة، وكم من مولود شفي بإذن الله وبفضل أهل البيت.
نفوس ممتلئة باليقين وبالنوايا الحسنة تنذر ما وسعها النذر حتى الفقراء منهم تفوض أمرها لله وتلجأ للنذر "يوفون بالنذر ويخافون يومًا كان شره مستطيرًا".
وبالرجوع للحادثة وتوابعها، واصل "أبو حسن" مستذكرًا السبب الثاني بعدم سرقة الثور الذي بقي وحيدًا فأجاب: "الحاجة الفانية، هالفور ما هو عادن على الطلعة، هذا الفور ماخذنه راعيه يربيه ماهو تابع حياوين جدي أبو رضي وأخوه حجي مكي هذا إلى خالهم حسون ولد حجي بن إبراهيم ٱل سالم يسموه أبو إبراهيم واسم ولده الفاني محمد حسين أبو جاسم زوج بنت حجي مهدي ٱل زرع - جدة كاتب السطور- هذا الفور اله حاطنه في زربية أولاد أخته حتى ينتفتلوا له، كانت عنده بقرة ورفة عجل -أنجبت عجلًا- وجابه عندهم يتربى ويا لعجول ويتحملوا به وينتفتوا له، ومن كثرة الأكل ومن غير شغل صار متعافي، بشمان، متبشم، ما هو متعلم على الطلعة وعلى الروحة والجية، ما يطلعوا به وأنت بكرامه لتضريب البقر - أي نكاح الأبقار- أو إلى حراث الأرض أو إلى سگية، ثور متهوب ماطلع أبدًا، الحرامية اكيد سحبوه بس ماگدروا عليه، ولكن السبب الأولي أقوى، لو مباخت به بأهل البيت يمكن يطلع وياهم".
يكمل تعريفًا حول مصطلح الكلمة: "يعني هذا الحيوان امباخت به أهل البيت، إذا حانت سنته يطلعوا الربع من تثمينه هالقد ربية، ومن جودتهم أهل لول مايثمنه راعي الحلال هو يعرف چم يسوى، لكن يجيب واحد من الفريق باخص، أو قصاب جاي بيشتري من عندهم الفور يقولوا له ثمن وياك هالعجل شوف چم يسوه، حتى راعي الحلال يبرز نفسه ولا يحط في ذمته"!
يعجز الكلام عن وصف هذه النفوس الشفيفة، بنزاهة لا متناهية، وإيمان راسخ لفعل الخير برغم توحش أهل الشر الذين ينقضون على حلالهم ويقضون مضاجعهم، فهم لا يتراجعون عن تقديم الهبات والوفاء بالنذور مهما حصل وحدث لهم من نهب وسلب وشح في المال!
قام الأخوان حجي مكي العقيلي صبيحة يوم السرقة على بمشيان على طول درب المگطع، يتتبعان آثار الغزاة وحين وصلا "لسيف المگطع" وجدا على "العيچ" حشائش ساحل البحر، مجموعة "خضر" مصفوفة أشبه بالمنامات، وهي دلالة على مكوث السراق وبياتهم عليه لحين جزر الماء "ثبر" ليتمكنوا من عبور البحر. حين اجتازوه، يا ترى أي اتجاه فيما بعد سلكه السراق، غربًا بمحاذاة مقبرة "الخباگة" وهو طريق وعر بفعل كثافة الرمال، أم شمالًا وهو الأقرب، سارا عليه وبحساب الزمن هل يتمكنان من بلوغ شيء ما، واصلا مشيًا عبر الدروب الزراعية المتعرجة، متقفين أثر الغزاة الغرباء نحو الشمال عابرين بين مزارع البحاري والقديح، حتى دخلا على مزارع أبناء عمومتهم "لعقيليات"- عائلة العقيلي فرع العوامية- وجدوهم منهمكين بصرام النخيل، في نخل البدايع بالعوامية، حين وصلا عندهم ظهرًا، وبعد التحية والسلام أبلغوهم ما حدث لهم ليلة البارحة وعن أوصاف الحيوانات المنهوبة، قالوا لهم "اف اف.. لو الطير خبرنا إن كان ماعبروا الغزاة من عندنا، شفناهم وقت الضحى كل واحد ماسك عجل في ايديه جيش مار، سلموا ومروا علينا، لو ندري ليكم يااولاد العم ان كان مافي حرامي يطوف منهم، ياحنا ياهم"!.
رافقوهم تفتيشًا بين صحاري صفوى وبراري أبو معن ولكن دون أثر اختفى السراق. في اليوم التالي استأجر "أبو رضي" ثور من عائلة ٱل سباع من أجل تشغيل الجازرة لري الزرع خوفًا من موته بسبب شدة الگيض، جاهدا لري مزروعاتهما دون إجهاد للثور، بعد أسبوع شاهدا صبيًا مستلقيًا في الدولاب نحت ظلال "عكرة الچداديب" وقت الظهر وقال أبو رضي "ها ياولد خير" رد عليه بأسلوب متوتر "يقول ليكم خالي ياتشتروا الفور أو ٱخذه من عدكم، يبغاه خالي الحين، اتخرتوا ولا عطيته الكروة"! حين سمع حجي مكي، قال له: "يا ولدي الله يبارك فيك، سلم على خالك أنا بتواجه وياه اليوم ومايصير خاطره إلى طيب"! تمت المفاهمة بالقدر المستحق ماليًا وحسم الأمر بالتراضي والود.
مر شهر تقريبًا على سرقة الأخوين حجي أبو رضي وحجي مكي، لكنهما لم يتوقفا عن العمل، راحا يسقيان زرعهما بواسطة الغرافة المتوقفة منذ زمن، يتبادلان السقاية، بينما الجازرة من دون ثور معطلة، ري لا يسعف دولابهما "لجويزرة" الممتد طولًا نحو الجنوب، والمليء بالحشائش والخضراوات الكثيرة.
عند الظهر جلسا تحت ظلال البمبرة الناشرة أغصانها على محيط الجازرة، وحين هما بمد أيديهما لتناول وجبة الغداء، وإذا برجل يدخل عليهما، رجل أشعث أغبر ممسك بثور يترنح مشيًا، وهو ينادي "بو رضي بو رضي" جاوباه، "حياك، أگلط " استقبلاه والدهشة تملأ محياهما، بينما هو يسارع في كلامه شهيقًا وزفيرًا، وثوبه مبللة بالعرق: "السلام عليكم .. شفت هالثور عند خويان لنا، وعاينته، وقلت لهم هذا للعقيلي وناشدتهم بالكلام السنع لكنهم عيوا، تعاركت معاهم وأخذته من عندهم بالگوة، ومن زود لمعارك معاهم راح اتفگي، قلت لازم أجيبه لكم لأني ذكرت يوم ضيفتوني بالسحة -التمرة- وما نسيت قطرة الماي"!، راحا يبصرانه بتعجب واتهام مبطن كيف استدل على شكل الثور ولم يخطئ في ملكيته للغير! وحتى لو رآه ذات مرة عند اشتغال الجازرة أم تشابهت عليه الثيران، إذ ليس مستبعدًا أن يكون واحدًا من السراق، وسوء النية فضحته بإلحاحه المستمر بالقبض مقابل إرجاع الثور، أصر بشكل منفر، بعد جدل قبض 15 ربية وقيل عشر ربيات! والتعليق يأتي تنهمًا واتهامًا، "الغزاة ازفوت وكلهم اهيوس، متخادنين في البوگة "! أي متواطؤون في السرقة، غادرهم بعد أن شاركهم الغداء وأزعجهم بادعاءاته البطولية الفارغة.
أخذ الأخوان الثور وكأنه ليس ثورهما هزيلًا، ضعيفًا، يلهث من شدة الجوع حيث عاش قرابة شهر وسط بيئة قاحلة.
يشير الاستقراء بتخمين في محله، حين استشعر الغزاة بأن الثور لا يستفاد من ذبحه وربما يموت بين يوم وآخر، فالسبيل بعدم خسرانه إرجاعه لأصحابه والظفر ولو بالقليل من قيمته الفعلية. يتردد بين قول وقول بأن الشخص المدعي تسلم نصف طلبه، أي عشر ربيات.
باشر الأخوان لإدخال الثور في الخب لكنه لم يستجب لسحب الدلو لأن قواه شبه خائرة، راحا يكرمانه إشباعًا بـ"عومة وفخارة" يومًا بعد يوم استرد عافيته وجرت محاولات مستمرة لتعويده على الحراك، استجاب بعد مشقة بالغة وكأنه حديث عهد بالجازرة.
عاد عزف المنجور يعزف ألحانه المعهودة بعد أن عاد الثور إلى مرتعه منعمًا مدللًا، ماء يتدفق بحراك متواصل ومداراة الحلال عيون ساهرة من حين لآخر. النماء بهجة الروح، عيدان خضراء حان قطافها، المحش يجز الحشائش بسرعة وفن، يحزم حجي مكي العقيلي "الصرات بعگب" ويرتبها في "المراحل" الشبيهة بالزبلان ويضعهما على ظهر الحمارة، كل مرحلتين معلقتان في إحدى جنبيها، ممتلئتان بالحشاش، تجاورهما مرحلتان فارغتان من أجل وضع التمر أثناء المكتسب من البيع.
دائمًا الانطلاقة بين العصر والمغرب أو بعد العشاء وأحيانًا عند منتصف الليل وذلك حسب "الولمة" المد والجزر، لمساحة تقدر بـ2 كيلو وهي منطقة العبور بين القطيف وجزيرة تاروت. ينطلق أبو رضي العقيلي على صهوة حمارته قاطعًا "المگطع" واصلًا للقطيف وعابرًا طريق "العياشي"، مارًا بعنك وسيهات وواصلًا إلى الدمام القديمة المشرفة على البحر، مرات يصل عند منتصف الليل ونادرًا قبل تباشير الفجر، يؤدي صلاته داعيًا ربه بطرح البركة في بيعته، يغفوا قليلًا على رمل الساحل ويستيقظ مع بزوغ نور الشمس، مع تباشير الصبح يتجول بين دروب مساكن الأعشاش حيث لا يوجد بيت من طين في الدمام القديمة! بينما سيهات والقطيف وكل قراها ومناطق جزيرة تاروت منازل شامخة بالبناء!
ينادي بترداد متواصل "بگل ارويد، حندبان، كزبرة، لومي، بامية" ناس تشتري من عنده مقابل "آنات"، وآخرين مقايضة بالتمر، فردات يضعها في المراحل الفاضية.
من خلال ترداده على المكان أصبح مألوفًا لأهل الحي ينادونه بـ عبد الله بن يوسف أبو عمران، خافيًا اسمه الحقيقي، نظرًا لحساسية اسم "علي" عند البعض لموقف ترسخ عنده حين ناداه ذاك الصبي من أحد البيوت بقوله في كل مرة يطوف بين بيوتات الأعشاش يناديه: "جاء علي جاء علي"، فمكان من والد الصبي، بأن أمر أبو رضي بلزوم مسك عصا وملاحقته ابنه حتى في حوش البيت وضربه تخويفًا كي لا يناديه في المرات القادمة بهذا الاسم! إنما بـ"أبو عمران"، والأبعد من ذلك تحسبًا للبحث عن اسمه الحقيقي عند أصحاب الدواليب.
حيث يقول الحاج عبد الله العقيلي عن جده الذي يعد أول "البگالين" في بدايات نشوء الدمام، "الأول الغرب إذا اتعارفوا على واحد من جماعتنا وسيروا على دولابه يعفسوه عفاس، ومن ضمنهم دولاب جدنا إذا جوا له يصيروا دبگين كل شيء يبغوه، بيغوا هذا وهذا، يقطفوا على كيفهم، ولأزيد إذا طبوا ويا جهالهم، يدوسوا ويخربوا الزرع، من چديه غير اسمه، لو جوا وسألوا عنه وين أبو عمران ماحد بيعرفه، وبيفتك من جيتهم"! والأبعد من ذلك استدلالهم باسم صاحب الدولاب، قد ينذر بهجوم ليلي من ذوي النفوس الضعيفة بعد أن عرفوا خريطة الدولاب، أو عن طريق إشاعة اسمه عند بعض أهل السوءا، وتحسبًا من أصحاب اللؤم الماكرين تنكر باسم آخر حماية لنفسه.
لكن برغم كل إشكالات الظنون والشكوك التي تحوم بالتوجس والريبة، ثمة جوانب ألفة ومودة ومحبة بين الطرفين، وهذا ما يدلل عليه المشهد التالي، حيث مواقف تدعو للعرفان والتقدير عبر علاقة أخوية توطدت مع الأيام بين أبو رضي وشخص يدعى "امبريچ" من سكنة الدمام القديمة.
ولاستحضار هذا المشهد عن قرب عبر سيناريو بين لهجتين مختلفتين، واحدة قريبة من لهجة أهل المحرق في البحرين والأخرى لهجة تاروتية حيث يقول الحاج عبد الله العقيلي عن جده: "جدي أبو رضي صار عنده صاحب اتوالف وياه عدل اسمه امبريچ، والصراحة كل واحد يكرم الفاني، كلما جاء جدي يبگل في الدمام، يمر على صاحبه يزعگ، يامبريچ يامبريچ، يرد عليه، لبيك .. لبيك، يطلع له ياكلوا فردة تمرة ويشربوا قهوة سوا، وتم على الحال مدة، حتى قال له امبريچ مرة، ياعبد الله باوديك لجبيل باروح معاك وترى فيها بيع كثير، لكن اليوم على اليوم، حتى اتواعد وياه على اليوم الفلاني، جاء جدي يبگل على عادته وزعگ على صاحبه، يامبريچ يامبريچ يامبريج، ماميش كلام، كل طلعت أم امبريچ حامله على چتفها طفل والفاني مجودتنه، وهي تقول: يا عبد الله خويك امبريچ مااااات، مات ليلة امبارح جته زوعه وحله ومااات، شهق جدي وحول وعقل لحماره وربط أياديها بحبال وهناك بعد رمل حوله ادحن اشويه وصاح عليه، وهي تقول: وي يصيح على أخوه معذور، خلاص امبريچ تيسر لربه، ماالله رايد يروح وياك لجبيل".
تطوي الأيام ويتعاقب الليل والنهار، والشوق يزداد شمالًا، وأول الواصلين للجبيل محمد حسين الشاووش أبو حسين كان رفيق درب أبو رضي إلى الدمام، قطع مسافة طويلة على ظهر حمارته، وهو المغامر الأول، للذهاب لوحده مقتفيًا آثار المشاة، وحين اكتشف المكان نقل صورة حسنة لأبناء ديرته بأن مهنة "لبگالة" في الجبيل أفضل من الدمام، ثم تبعه جيرانه من دواليب شمال جزيرة تاروت، راحوا يتسابقون لبيع محاصيلهم الزراعية في كلا المكانين وأيضًا قصدوا بلدة أم الساهك.
أي قوة ملكها رجال الأمس بقطع الصحاري والقفار وخصوصًا للجبيل والتي تقدر بـ77 كيلو، مسافة ليست بالهينة وإن كانت على ظهر حمار، تساءلت لدى السارد أبو حسن العقيلي، متى يصل هؤلاء الرجال؟ وكم من الوقت يستغرقون؟ رد بجملة: "الله يطرح ليهم البركة" وأعقبها بمثل شعبي: "الماشي طير والواقف حجر"! رددت المثل في خاطري كثيرًا،وكأني قبضت على حكمة الأولين. رجال قطعوا المسافات وتكبدوا العناء والمشاق، من وعورة درب وتطاير رمل يعمي العيون ويزكم الأنفاس، وحرارة شمس ولف ودوران بين الأحياء، ومناداة مستمرة يبح فيها الصوت كل هذا من أجل ماذا؟ من أجل تسويق منتوجاتهم للحصول على مال قليل! لكن القليل فوق القليل صار كثيرًا، يالهم من رجال ونعم الرجال، سعوا بكل ما أوتوا من قوة وبعزم لا يلين.
ما أعجب نفوس رجال عن رجال، أناس برغم المعاناة تبيع كد عرقها لتحصل على الرزق الحلال، والنقيض أناس اعتاشت على النهب والسلب لتأكل الحرام، لكن هيهات أن تجتمع المسافتان في ميزان الأعمال. طوبى لمن أكل من عرق جبينه.
أوجاع ومسرات الذاكرة!
أحداث السرقات جرت قبل قرن ونصف القرن من الزمان حيث، يستذكر الحاج عبدالله علي العقيلي ما عاشه المواطنون من رعب وخوف "يقول جدي أبو رضي، ما هي عيشة اللي عشناها زمن العصملي قتل ومقاتل والبوگ داير على حلنا وحلالنا، ماهتنينا إلا من حكم الملك عبدالعزيز رحمه الله، خلاص تابوا الحرامية وقفهم عند حدهم ولا عادوا يطبون أبدًا، -ويضيف رأيه شخصيًا- والله أفتكت الناس من ذاك العدوان والجور، الأمن نعمة ما يحس بها إلا فاقدوها، الحمد لله الناس ارتاحت وما فيه وجل ولا خوف واحنا ارتحنا الله يديم علينا مملكتنا بخير وسلام".
يا قارئ التاريخ كم لنا فخر حين ساد الأمن والأمان في ربوع مملكتنا الغالية على يد المؤسس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-. وكلما مرت مناسبة وطنية عزيزة على قلوبنا نستذكر مآثر ولاة أمرنا الذين أرخوا العدل وأقاموا دولة السلم، أدام الله علينا نعمة الأمن والأمان في ظل حكومتنا الرشيدة، سلمت يا وطني يا أحلى الأوطان.
تحية وسلام:
من ظلال نخل "مخيزيمة" المنبعث منه حكايات الجازرة، للإخوة حسن عبد الله العقيلي وحسن علي العصيص، لقيامهما بتصوير بعض من مشاهد هذه الحلقة وخصوصًا المرتبطة بعالم الحظيرة.