29 , يونيو 2025

القطيف اليوم

إلى روح عبد الخالق الجنبي مع التحية 

رحيل الأستاذ عبد الخالق الجنبي خسارة وطنية بامتياز، فهو ليس شخصية عادية بل شخصية لها حضورها الطاغي في الوسط الأدبي والتاريخي.

فهو يمتاز بروح الباحث الأكاديمي الجاد والموسوعي المتنور المنفتح على الثقافات الأخرى، لا يلج موضوعًا من باب التفضيل أو الانحياز أو العاطفة، إنما من رؤية ملحة يريد أن يكتشف ما لم يكتشف من قبل، هذا ما فعله في كتابه المميز "هجر وقصباتها الثلاثة" حيث برهن على جغرافية المكان غير المتعارف عليه، وكأنه عالم أركيولوجي، وكذا ما فعل في كتابه الإشكالي عن "شرح ديوان ابن المقرب العيوني".

شخص يغوص عميقًا في البحث يقرأ كثيرًا بشكل منهجي، ويقرأ كل شاردة وواردة ويدون في الحواشي، ويجمع القول الضعيف والمعتبر ويتخذ من الرأي الصائب منطلقًا، وبعد جهد وسهر ينظر لكل ما طلع عليه ويستنتج حسب رؤياه من أوجه محسوسة غائبة عن العيون ويمزجها بالأدلة والشواهد من أثر وقول معتبر، وفوق كل هذا لا يستعجل النشر، وحين يستشعر بأنه استكمل واستوفى كل ما أحاط به من شؤون دقيقية وعامة يبدأ التدوين بتؤدة وكأنه ناسك في محراب البحث العلمي، يستخلص رؤياه الخاصة المبنية على أقوال السلف ومن الأثر المرئي ويقدم ما توصل إليه من مكتشف جديد لم يتطرق إليه أحد من قبل فيطلق قناعاته عبر الكلمة والقول المباشر، ثم يقدم إصداره للقراء، ليس في حلة قشيبة وإنما بتلهف ماذا قال عبد الخالق.

وهذا ما يدلنا عليه عبر كتابه الموسوم بـ"جرة مدينة التجارة العالمية القديمة" -جرة بكسر حرف الجيم- البالغ عدد صفحاته 410 صفحات نستكشف مدى الجهد الشاق في عملية البحث والرصد لمدينة حضارية عريقة نالت مكانة أسطورية بغناها الفاحش حيث كانت مركز التجارة زمن الإغريق والرومان والتي عرفت بـ جرهاء أو جرعاء، وحسب وصفها عند عبد الخالق: (إن مدينة جرة هي مدينة هجر، وموقها الركن الشمالي الغربي من جبل قارة وإن بقايا ٱثارها تشاهد حتى الٱن بالقرب من مغارة كبيرة تعرف باسم مغارة العيد والمكان معروف إلى الٱن باسم الكوراج)، بين هذه المدينة المنسية وبين شواهد أصبحت أثرًا بعد عين مثل كتابه (قبر الٱوجام) وأيضًا كتابه (المحفوظ من تاريخ الشريف العابد أخي محسن)، نراه يتقلب بين الأمكنة والشخصيات الأدبية المرتبطة بالطوائف والفرق، التي سادت ضمن حقب مؤثرة في التاريخ الإسلامي، فضلًا عن بحوثه التاريخية والجغرافية ذات العلاقة بشرق الجزيرة العربية.

فوق هذا وذاك شخصية متحدثة، ما نقرؤه في صفحات كتبه النوعية يجري على لسانه كأنه يقرأ من كتاب، حيث يتكلم بلغة عربية سلسة لا يلحن في الكلام، ويتمتع بذاكرة ثرية لكل ما دونه وما اطلع عليه، كم تمنيت لو وثقت محاضراته، وخصوصًا ثمة مداخلات من الحضور أجاب عنها بطريقة علمية وليس عن هوى.

إن كان عبد الخالق الجنبي باحثًا علميًا رصينًا فهو أيضًا شاعر متمكن، وناقد لأوجه الشعر الذي يساق في المشهد الشعري المحلي، وله ٱراء في بعض ما ينشر لم يفصح عنها علنًا، وإنما للخاصة بقوله: "هذا شويعر وهذا كويتب"!، ويصنف من هو أفضل شاعر في القطيف على مستوى الخليج.

ٱراء قالها عن معرفة ودراية فهو متبحر في اللغة والشعر وليس تقليلًا من أحد إنما يتحدث عما يقدم من الممتاز والجيد إلى ما دون ذلك.

إن كان صريحًا بشكل خاص في المنجز المحلي، فهو صريح بشكل علني، أتذكر ذات مرة في إحدى مزارع تاروت حضر وزير الثقافة إياد مدني والحضور من صفوة الأدباء والكتاب والمثقفين وكل تحدث برؤياه عن المنطقة، وحين أتى الدور إلى الأخ عبد الخالق تكلم عن رئاسة النادي الأدبي بقوله: (لماذا يظل جاثمًا عليه شخص ينتمي لنوعية قديمة من الفكر ولا يرتضي شعراء الحداثة)!.

شخص في آكثر من محفل له نفس طويل في الجدل المعرفي، وهناك مساجلة بينه وبين الشاعر عدنان العوامي منذ سنوات في إحدى الأمسيات.

يمتاز عبد الخالق بأدب ودماثة خلق وحس فكاهي، وإحساس طاغٍ في البحث والاطلاع على الوثائق والحوليات إضافة لزيارة الأماكن الأثرية برغم ظروفه الصحية، ولديه أرشيف متنوع من الصور القديمة لأمكنة وبلدات القطيف التي تغيرت معالمه للأبد، كم من التحايا نجزيها لشخص نذر عمره لرفع راية البحث العلمي، عن تبصر ورؤية أكاديمية وبحس أدبي رفيع، لتظل بحوثه وكتبه علامات في ربوع الوطن.

وبكل أسف لم ينل منا أي تكريم! وأعني بالتكريم ليس بإعطائه درعًا تحت فلاشات التصوير، وإنما احتفاء جدي بشخصيته الملهمة وبكل منجزه الثري.


error: المحتوي محمي