13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

نرجسيّ ونرجسيّة .. تأصيل ودلالات

مدخل

قرأت "تجربتي مع بعض النرجسيين" (هنا)، المقال الرائع سبكًا وعرضًا ومعنًى للكاتبة المتألقة الأستاذة غالية المحروس، وأوشكت أن أُسطِّر إعجابي بالمقال الجميل في التعليقات لكنّي قررت أنّ أذكر البعد اللُّغوي لمفهوم "النرجسيّة"؛ بعدٌ قد لا يضيف للمقال زيادةً لنقص أو تصحيحًا لخطأ، لكنَّها خاطرة قدحها، وذكرنّي بشيءٍ نشرته من قبل أحببت قراء المقال وقراء "القطيف اليوم" الاطلاع عليه للفائدة، فللكاتبة الشكر والتحيّة والدعاء بالتوفيق.

”النّرجس“ في اللغة العربيّة هو اسم لزهرة جميلة من جنس من الرّياحين، وتُسمّى به النساء «نرجس». وهي لفظة مشتركة بين لغات كثيرة[1]. ومن كلمة ”نرجس“ جاءت "النرجسيَّة“ «Narcissistic» بمعني حب النفس المفرط أو الأنانية «الشديدة»، وهو اضطراب في الشخصية، والشخص المصاب به "نرجسيّ“ «Narcissistic» وهو الّذي يتصف بالغرور، والتّعالي، والشعور بالأهميّة ومحاولة الكسب ولو على حساب الآخرين. لكن ما هو أصل الكلمة؟

تحكى الأسطورة اليونانية أن صيادًا اسمه نركسوس - وقيل نركسيس وقيل نرسيس باليونانية: «νάρκισσος» - كان مغرورًا وفخورًا بنفسه ومتعاليًّا فتجاهل وأعرض عن كل من أحبه؛ لاحظت الإلهة "نمسيس“ حالته وغضبت عليه بسبب تصرفه هذا فأخذته إلى بحيرة صافية ورأى انعكاس "وجهه" على الماء فأُعجب به لدرجة أنه لم يتمكن من ترك "صورته" ولم يعد يرغب بالعيش بعيدًا عنها وبقي يحدق فيها إلى أن مات. وبعد موته أحيته بعض الآلهة على هيئة زهرة سميت ”زهرة النرجس“ «Narcissus ّflower»، وفي رواية أخرى أنَّ زهرة نبتت على قبره، فسميت بهذا الاسم، وصارت هذه الزهرة ترمز إلى الغرور والأنانية واللامبالاة بالآخرين[2].

وفي العصر الحديث التقط العالم النفسي الشهير سيجموند فرويد "أسطورة نركسوس" ووظفها في نظرياته النفسيّة المعروفة بـ ”التحليل النفسي“، وطوّر منها ”عقدة نرسيس“ «Narcissism»، وتعرف أيضًا بـ "عقدة النرجسيّة“، فاشتهر المفهوم والأسطورة وتبعًا لذلك المفردة المأخوذة من اسم بطلها وزهرته ”نرجس“ التي دخلت اللغة العربيّة عن طريق الفارسيّة[3]. وتماشيًّا مع انتشار المفهوم والمصطلح الفرويدي اشتُق العرب من كلمة "نرجس“ "نرجسيّ“ صفة للذّكر، وجمعها "نرجسيّون“، والأنثى ”نرجسيّة“، وجمعها "نرجسيّات“.

والمفارقة أنّ اسم زهرة ”النرجس“ منتشر في اللُّغة العربيّة، كما ذكر أعلاه، كاسم علم خاص بالنساء «نرجس»، وليس للرجال، خلافًا لذكوريّة الاسم في اللغة اليونانيّة، مصدر التسميّة وأصلها، حسب سرديّة الأسطورة المذكورة.
_____________
الهوامش

[1] في التركيّة والكرديّة: ”نرجس“، وفي الفارسية: ”نَرْگِس“، وفي الأرمنية: ”نرسيس“. وفي اللاتينية: narcissus والفرنسية: narcisse، والإيطالية: narciso، والإنجليزية: narcissus والألمانية: Narzisse، وكلُّها من أصل واحد، كما سنرى في الفقرات التاليّة.

[2]  ومن جانب آخر، هذه الزهرة «نرجس» صارت رمزًا للبهجة والسرور والفرح، لذلك تُهدى عند الاحتفال بالذكرى العاشرة للزواج في بعض المجتمعات. كما أنها تمثل الإلهام والإبداع والحيويّة، بالإضافة إلى الثروة والغنى، وقد أشارات دراسات في علم النفس الحديث إلى العلاقة بين النرجسيّة والإبداع.

[3] ليس واضحًا متى دخلت إلى اللُّغة العربيّة، لكنها جرت في كلام العرب قبل الإسلام، فحسب معجم لسان العرب «مادة يسم»، قال الأعشى:
وشاهَسْفَرَمْ والياسمِينُ ونَرْجِسٌ …. يُصَبِّحُنا في كلِّ دَجْنٍ تَغَيَّما
يضيف ابن منظور: «شاهسفرم» ريحانُ الملك، قال أبو حنيفة هي فارسيّة دخلت في كلام العرب.


error: المحتوي محمي