26 , يونيو 2025

القطيف اليوم

من جزيرة تاروت.. الملاية خديجة الحبيل.. قرأت بحضور 4 نساء في الدالية.. وأنشأت الكتاتيب للتعليم في الربيعية عام 1380هـ

مئة عامٍ مرت على أول مأتم حسيني نسائي في دالية تاروت للملاية المعلمة الراحلة خديجة علي عبد الله الحبيل، ومرَّ معها التعليم في كتاتيبها التي أنشأتها بعد انتقالها لحي الربيعية مع زوجها الحاج إبراهيم سلمان عبد الله الحبيل. 

عاشت الملاية الحاجة خديجة علي الحبيل المنحدرة من جزيرة تاروت حياتها تحديدًا في "الدالية" مع مجتمع زراعي لما يُقارب الستين عامًا من عمرها قضتها بين المزارع والنخيل، حياة حافلة بقصص وحكايات تصاحبها أينما حلت. 

أسست مأتمها في دالية تاروت وكان أول مجلس حسيني نسائي بحضور أربع نساء من جاراتها المزارعات هناك؛ لانشغال بقية النساء واهتمامهن بالزراعة وسف الخوص ومزاولة أعمال البيت، واستمر المأتم حتى توسع الحضور النسائي لديها إلى أكثر من ذلك العدد. 

الانتقال للربيعية
يسرد الحاج قاسم كاظم الحبيل لـ«القطيف اليوم» بعض ما في ذاكرته قائلًا: "انتقلت الحاجة خديجة مع زوجها إلى حي الربيعية عام 1377هـ، حيث سكنت معه في بيت عائلي تسوده المحبة والتعاون، وكانت تُشارك ضرتها في أعمال المنزل وتتبادل معها الأدوار والمهام". 

كانت للحاجة خديجة شخصية مجتمعية بارزة، وذات هيبة ووقار. اتخذت لها مساحة خاصة للتعليم والقِراءة الحسينية في بيت العائلة "العريش" المصنوع من الجريد وسعف النخيل، فكانت نساء الحي يأتين إليها يُشاركنها العزاء، وكانت هي من بينهن حافظةً للقرآن الكريم تعلمهن وتُحيي معهن بعض الأذكار والأدعية النهارية في شهر رمضان المبارك، وكانت من الملايات الأوليات اللاتي شيّدن المآتم الحسينية النسائية في الربيعية.

بناء الحسينية
قررت الحاجة الحبيل شراء بيت آل حمود بمبلغ وقدره ألفا ريال، حيث كانت تبلغ مساحته حوالي 500 متر مربع أو أكثر، مكوّن من غرفة واحدة وعريش من الجريد وسعف النخيل، أحاطتهم بسور من الحجارة البحرية والطين وأمرت ببناء "ليوان" في الزاوية الشمالية الغربية؛ لتشيّد لها به صرحًا علميًا لتعليم القرآن الكريم والقِراءة الحسينية بما يُسمى "الكُتّاب أو الكتاتيب" في ذلك الوقت، وتم البناء وإدخال الكهرباء في عام 1380هـ على يد ابن أخيها الحاج حسن علي الحبيل مع الحاج عبد الكريم المطر -رحمهما الله-.

بداية التعليم
بدأت رحلتها في تعليم أبناء أهل الحي، فكان التعلُّم في الكُتاب على فترتين، الأولى تأخذ معظم نهار (الوليدات) من الصباح إلى صلاة الظهر، والفترة الثانية من بعد الغداء إلى قُبيل غروب الشمس عدا يومَي الخميس والجمعةِ. 

أما عن طريقة التعليم سابقًا فكانت بأن تجلس المعلّمة على "قاعودة" مصنوعة من الخوص وسعف النخيل مواجهةً الفتيان والفتيات على مسافةٍ قريبةٍ منها، وتقوم المساعِدة لها من الوليدات المتميّزات بإرشادهم وتعليمهم.

وليدات الحاجة الحبيل 
ضمت أول مجموعة من الفتيات: الخطيبة الحسينية الراحلة فاطمة إبراهيم العقيلي -رحمها الله- وسعدى الصيرفي -رحمها الله-، سلمى الجمعان، خديجة الدرويش، ومن الفتيان: علي عباس أوال، عبد الله الدرويش، جاسم درويش "أبو رائد"، علي الصيرفي، عبد الله المحسن، موسى جعفر الحبيل، مهدي حسن الحبيل، عبد الواحد الحبيل، علي منصور القديحي، عبد رب الرسول معتوق الجمعان وغيرهم من أبناء وبنات الحي على دفعات متعددة كل مجموعة ما يقارب 40 إلى 50 ما بين وليد ووليدة، وبلغ عدد آخر مجموعة انضمت للتعليم لديها 80 فتاة.

توسع في التعليم
بعد توسع الحاجة الحبيل -رحمها الله- في دائرة التعليم في محيطها الاجتماعي، اكتفت بتعليم الفتيات فقط؛ وذلك لأنه تم افتتاح مدارس البنين بتاروت سنة 1373هـ وكانت في بعض المنازل الكبيرة المهيئة لبيئة التعليم بطريقة الإيجار كمنزل الشيخ علي بن حسان بالديرة، ومدرسة الغالي "الحكومية بتاروت التي تسمى الآن مدرسة "الحسن بن علي"، وفي الربيعية منزل الحاج عباس علي أوال، ومنزل الحاج جاسم العقيلي، ومنزل إبراهيم الدبيسي ومنزل السيد صالح آل نصيف -رحمهم الله-، وبعدها تأسست أول مدرسة ابتدائية حكومية للبنين بالربيعية سنة 1391هـ فانضم الأولاد لها وانقطعوا عن الكتّاب. 

إلى جانب تعليم تلاوة القرآن الكريم في منزلها ليكون بمثابة "المعلّم" كانت تعلم الفتيات كذلك الخطابة الحسينية، والسلوكيات الأخلاقية وتسند إليهن بعض المهام لكي يكتسبن المهارات الحياتية، وقد خرّجت العشرات من تحت يديها ممن طمحن لحمل وسام الخطابة معها حيث كانت تقرأ مجالس العزاء يومي الأحد والإثنين من كل أسبوع، واستمرت المجالس الحسينية من بعد انتقالها من تاروت إلى يومنا هذا لما يُقارب 75 عامًا. 

الحج على جمل! 
أدت الحبيل فريضة الحج ثلاث مرات وكانت حجتها الأولى على "جمل" لعدم وجود المواصلات الحديثة وقتها. كان الحجيج يقصدون مكة المكرمة بالاستعانة بالدواب، ويسافرون قبل الموعد المقرر للحج بفترة طويلة ويقطعون البوادي والصحاري والطرق الوعرة على الإبل أيامًا وليالي وشهورًا ليصلوا إلى مكة المكرمة، وهناك مثل شعبي قديم يقولون فيه: "الذاهب للحج مفقود والعائد منه مولود". كما سافرت إلى العتبات المقدسة خمس زيارات. لذلك كنيت باسم الحاجية وهي الوحيدة التي تعرف بهذا المسمى إلى الآن. 

أول المآتم 
قرأت الحاجة الحبيل أول مأتم لعائلة الحاج إبراهيم العقيلي- رحمه الله- في الربيعية واستمرت فيه لسنوات عِدة بعدها تسلمت مهمة الخطابة السيدة علوية بنت سيد جواد -رحمها الله- ثم انتقلت الخطابة إلى ابنة صاحب المأتم الخطيبة الحسينية فاطمة إبراهيم العقيلي "عقيلية" -رحمها الله- بعد أن تتلمذت على يد المعلمة الحبيل وأتقنت فن الخطابة وواصلت التعلم الذاتي والتوسع في مجال الإلقاء والخطابة من خلال القِراءات والأبحاث العلمية المتخصصة في مجال الخطابة الحسينية إلى أن توفيت 20 ربيع الأول عام 1434هـ.

ثلاثة مآتم فقط
وذكرت الوليدة الحاجة الحبيل "حسنة عيسى آل شوكان "أم نجيب" أنه في تلك الحِقبة الزمنية كانت المآتم قليلة جدًا وكانت تُعد على الأصابع حيث كان مأتم المعلمة هو المأتم الوحيد في وسط الربيعية في شهر المحرم -كانت تقرأ العشرة الأولى عصرًا- وفي العشرة الثانية مأتم خاتون آل شرف "السيدة أم عباس" في غرب الربيعية ومأتم أم راشد الدليلي -رحمهما الله- صباحًا، وبعد سنوات توالت المآتم ببركة جهود وتعليم المعلمات خديجة والسيدة خاتون وأم سلمان اليعقوب للوليدات من الفتيات اللاتي برزن في ساحة الخطابة الحسينية.

ملايات مخضرمات
شهدت تلك الحِقبة الزمنية التي عاصرتها الحاجة الحبيل وجود خمس ملايات في الربيعية وهن: الملاية خاتون بنت سيد محمد آل شرف "السيدة"، وعلوية بنت سيد جواد، وهاشمية باقر إبراهيم آل درويش "أم الشاه" ومريم كاظم الدهنيم المعروفة بـ"أم حسن دهنيمة"، ومريم بنت حاج محمد رمضان، وطيبة محمد نور "أم عباس نورية" هؤلاء الملايات الحسينيات لم يسبقهن أحد في الخِطابة حيث صدحت حناجرهن الولائية بالنعي الحسيني على الرغم من صعوبات الحياة وعدم وجود الكهرباء والتكنولوجيا. 

اهتمام خاص

تترجم "آل شوكان" مشاعِرها بكلماتها وترحمها على المعلمة الحبيل عائدةً بالذاكرة إلى الماضي قائلة: "اهتمت -رحمها الله- بالتعليم اهتمامًا خاصًا حيث أعطته من عمرها وشبابها الكثير عندما كرّست حياتها للقرآن الكريم، تُعلّم الإعراب من "ألف لا شيء له" حتى ختام المصحف كاملًا والفخري بجزئيه ووفاة النبي محمد -صلى الله عليه وآله-. كانت لا تغادر الكتاتيب أثناء وجود الوليدات من باب حس المسؤولية، وكانت تخصص يومي العطلة الأسبوعية للمناسبات وزيارات الأهل والجيران.

المعلمة الحاجة كانت تقوم بمهامها العائلية وخدمة زوجها على أكمل وجه، ولأن الله سبحانه وتعالى لم يهبها  أبناء، جعلت حياتها في طاعة الله وتعليم كتابه المجيد وخدمة الإمام الحسين -عليه السلام-. كانت في شهر المحرم تسند بعض المهام إلى خادمات الحسين من تجهيز القهوة والشاي، وطبخ المحموص يوم العاشر من المحرم ومن بينهن: السيدة بنت علي السادة، وزهرة الرويعي "رويعية"، وفاطمة بنت عبد الله آل عباس "أم عبد الرسول معتوق الجمعان" وصفية عبد الله الجمعان "أم علي" -رحمهم الله-، وبنت علي صالح بمشاركة بعض الجارات.  

مناسبات شعبية اندثرت
وتحدثت آل شوكان عن المناسبات الشعبية التي كانت تُحييها الحاجة الحبيل، وتحمل مسميات مختلفة عند سكان جزيرة تاروت تحتفل بها صاحبات الكتاتيب القديمات منها: 

يوم لشراك
يوافق يوم 1 رجب وهو يتميز بالمشاركة بجمع بعض المواد الغذائية كالأرز والليمون المجفف والبهارات والملح والبصل من الوليدات كإسهام في وجبة الغداء التي تقوم الطباخة المخصصة بتجهيزها كـ"المحموص" ليتم توزيعها على الفتيات وأهاليهن، كما أن هناك أطباقًا وأكلات أخرى اشتهرت في هذه المناسبة. 

أعطت رحابة الفضاء في الكتاتيب انطلاقة للاحتفال بهذه المناسبة السنوية في شهر رجب وهي مناسبة مشهورة حيث يقوم الأهالي بالاستعداد لها بشراء الملابس والأحذية الجديدة ونقش الحناء على كفوف الفتيات، تركت هذه المناسبة في ذاكرة الوليدات أثرًا جميلًا لتلك الأيام التي عشنها في الكتاتيب.

يوم المحو 
وهو يوم ذكرى ميلاد السيدة الزهراء -عليها السلام- 20 جمادى الآخرة تقوم فيه المعلمة الحبيل باستضافة الخطاط علي بن عباس أوال -رحمه الله- ليخط آيات من القرآن الكريم بماء الزعفران أو العسل في صحون صين مخصصة للوليدات وسكب الماء عليها وشربه شفاءً وتبركًا بآيات الله، والمشاركة تكون بمبلغ نصف ريال رسوم للكاتب وما يتبقى من المال يكون من نصيب المعلمة.

يوم القرش 
ووصفت آل شوكان يوم القرش 30 شعبان بأنه عِبارة عن يوم مفتوح للترفيه واللعب يشاركن فيه بمبلغ نصف ريال ويتم فيه توزيع الحلويات والبسكويت على الوليدات. 

تمساية يوم الأربعاء 
كانت المعلمة -رحمها الله- تعتني جاهدة بما يُدخل على قلوب الوليدات السرور، ومن ذلك أن ابتكرت لنهاية الأسبوع وداعًا جميلًا بقراءة التمساية وهي: تمسى يا معلم بالسعادة
وآمرنا بأمرك في الرواحِ
بدأنا بالنبي أحمد محمد
رسول الله حي على الفلاحِ
وحيدرةٍ أبي حسنٍ علي
مبيد الشركِ في يوم الكفاحِ
وفاطمةٍ وابنيها جميعًا 
هما السبطان أرباب الصلاحِ

كانت كتاتيب القرآن الكريم قديمًا بمنزلة المدارس الابتدائيّة في عصرنا الحاضر، وكان لها أكبر الأثر في الحِفاظ على اللغة العربية إذ كان التلاميذ يتعلّمون فيها القِراءة والكتابة العربية والقِراءة الصحيحة للقرآن الكريم بالإضافة إلى الإعراب، وقد خرَّجت تلك الكتاتيب حُفَّاظًا وقُراء بسبب أخذهم القرآن الكريم غضًّا طريًّا منذُ نعومة أظفارهم. 

دكان الحاج حليل 

إلى جانب كل ما سبق أعطت أيام الكتاتيب مساحة للذكريات التي لا تمحوها الأيام ولا السنوات، بل تحتضنها بكل ما فيها من جمال. وهناك شخصيات تتشارك وتترابط معنا في ذكرياتنا كالحاج المرحوم علي مهدي حليل "أبو أحمد" مؤسس مسجد العباس جنوب الربيعية" وصاحب دكان الحي الذي يوجد فيه كل ما تحتاجه العائلات من مواد غِذائية وحلويات وغيرها، وحتى المصاحف متوفرة فيه وكلما ضعفت وتهالكت الأجزاء التي عند الوليدات سارعنَ لشراء الجديدة، خصوصًا جزء عمّ "القاعدة البغدادية" التي لا بديل لها في بدايات التعليم. 

ندرة المجاميع
وتحدثت وليدتها رباب معتوق الجمعان عن ندرة المجاميع والكتب قائلة: "في الماضي كانت المجاميع قِلة لعدم توفرها والتي لا تملكها إلا الملايات المخضرمات الكبيرات، كما أنها لا تُباع إلا عن طريق الخطاطين الثقات وكانت المعلمة -رحمها الله- تتعامل مع الخطاط المرحوم علي المحروس الذي كان يتميز بجودة خطه، فكثيرًا ما كانت تُعطيه كتبها القديمة ليقوم بتجليدها وكتابتها من جديد للحفاظ عليها، علمًا بأنّ الكتب كانت باهظة الثمن تباع بما يقارب 50 إلى 60 ريالًا أو أكثر بحسب ما يحتويه المجموع الحسيني من القصائد أو الروايات، لكن مع التطور ووصول الآلة الكاتبة والطابعة الإلكترونية سهّلت عملية التسويق بأقل جهدٍ وعناء، وأصبحت الكتب متوفرة. 

من ذاكرة الخطيبة البحارنة 
وفتحت الخطيبة زينب البحارنة نافذة الذكريات عن شخصية الراحلة الحبيل قائلة: "إنها رحلت ولكن أثرها باقٍ في قلوب وحياة الأحبة، إنّ لكل شخصية ومأتم مكانة خاصة ليعطي كل ذي حق حقه من التقدير والاحترام، والراحلة الحاجة الحبيل أثبتت بقوة شخصيتها وأخلاقها حبها للعلم؛ حيث إنها على الرغم من محدودية الوسائل التعليمية المتاحة لتعليم الفتيان والفتيات لكنّها استطاعت أن تقود وليداتها إلى عالم الخطابة بحسب ما لديها من إمكانات ومهارات وحثهن على أن يتقدمن ويواصلن السير إلى حيث المبتغى كخطيبات بارزات من أهالي حي الربيعية". مبينةً أنه كانت لها شهرتها في التعليم التقليدي في المنطقة وكثير من العائلات تتلمذ أبناؤهم وبناتهم على يديها -رحمها الله- فلا يوجد بيت إلا ولها ذكرى وذكراها في قلوبنا لا تنسى على مر السنين، وتقول: "كانت عندما يقترب شهر المحرم تدعوني للمشاركة معها في القِراءة، نشارك ونتعلم من بعضنا وأغلب حضور المستمعات يكون من (وليداتها) يتدربن على القِراءة معها". 

الرحيل
رحلت الحاجة خديجة علي عبد الله الحبيل بعد معاناة من المرض الذي على إثره تم نقلها للمستشفى التعليمي بالخبر وبقيت لعدة أيام فيه حتى اختارها الله إلى جواره مطمئنة يوم السابع من شهر رمضان عام 1407هـ. ولا زالت في ذاكرة أهلها وجيرانها ومن تتلمذ على يديها من أهالي الربيعية ومأتمها لا يزال موجودًا إلى الآن تقيمه بنات العائلة بمشاركة بعض الوليدات، رحمها الله رحمة الأبرار. وجعلها في زمرة محمد وآله.



error: المحتوي محمي