13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

الوجيه الحاج سعيد العمران ورفقاء دربه.. كانوا شمسًا تشرق بالدفء

إذا كنا تعودنا أن نكتب ما يخالجنا من إحساس ومشاعر لصالح أشخاص نكن في قلوبنا لهم المحبة والمودة والتقدير. فليس معنى هذا أننا وحدنا، فهناك أناس أشد مما نحس وإن كانوا لم يتعودوا نشر أحاسيسهم بالصورة التي تعودناها.
قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} صدق الله العلي العظيم. الموت حق وقدر مكتوب لا يستطيع أحد الفرار منه، ولكن ما أشد إيلامه حين يختطف أعزاءنا، نشعر بالضعف كلما سمعنا أن أحد رجالات القطيف قد غادر دنيانا الفانية.
ودّعتْ القطيف قبل يومين رجلًا من رجالاتها، وصرحًا من صروح الحب والعطاء، وهو آخر الرجال الراحلين عن دنيانا؛ ممن زاولوا مهنة بيع الأدوية القدماء، الحاج سعيد علي العمران رجل الأعمال المعروف، ومن الأبطال البارزين في المجال الصحي، تجلت واضحة فيما قدم من خدمات معروفة مشهودة، رحل الرجل الطيب الذي يمثل علامة فارقة في المجتمع القطيفي، شخصية مرموقة من جيل الآباء المتعلم، وصاحب مستودع أدوية العمران، كسب ود وحب المرضى والمتألمين من الفقراء بالعطف واللطف وحسن المعاملة، فوجدوا من مواساته الصادقة وابتسامته الدائمة ما يشفي عللهم ويعالج شكاواهم، أمتلك حسًا صادقًا وثقافة وموهبة، فإنه بذلك يلبي أفضل الواجبات الإنسانية التي تلح على ضميره الحي.
عندما أرجع بخيالي، عقارب الساعة إلى الوراء، فإنني أسترجع معها ذكريات الأيام التي عشتها، لا تغيب عن البال، وعندما وعيتُ الدنيا وجدتُ أن الأدوية تباع في محلات تحمل اسم مخازن أو مستودعات، وكان في القطيف ثلاثة مخازن مشهورة، ومخزنان تم فتحهما ولم تطل فترة عملهما، ففي تلك الأيام كنت أتردد على مخازن أدوية العمران والغريافي والمهنا، أتذكر تلك المحلات بكل تفاصيلها الدقيقة، بحكم تواجدي في السوق وحاجتي المستمرة للدواء، كان عمري إذ ذاك في الرابعة عشرة أو أقل بقليل تقريبًا.
الحاج "أبو خالد" تبوّأ مكانة متميزة بين أقطاب المجتمع، عزيز على أهل القطيف، ولديه رصيد الحب في صدور الرجال، فالجميع يكنون له الاحترام والتقدير، هو بالنسبة لهم أخ وصديق، فكيف بالذين التقوه وأنسوا بحديثه، إني لأذكر آخر لقاء بيننا في إحدى المناسبات قبل وباء كورونا، فقد تفضّل رحمه الله ومنحني جزءًا من وقته الثمين، أفادني فيها فيضًا من تاريخه ومشواره الحافل بالعمل، كان ذلك آخر لقاء، ولقد كنت أمنّي النفس بلقاء آخر وجلسة أخرى بين هذا الرجل الذي أحمل له - كما يحمل أبناء بلده ومجتمعه - كل إكبار وإجلال. ولكن المرض وقف حائلًا بيني وبين المزيد من العطاء، وكنت دومًا أسأل عن حالته الصحية عندما ألتقي أولاده الخيرين في المناسبات الاجتماعية، لقد تمتع الرجل المؤمن بذاكرة قوية مدهشة احتفظ بها حتى السنوات الأخيرة من عمره الطويل الذي قارب المائة، فلم يُصب قلبه بالشيخوخة، لكنها إرادة الله سبحانه وتعالى، لقد اختاره الله إلى جواره.
شاء الله - تبارك وتعالى - أن التقيت مسبقًا رفيق دربه المرحوم الحاج عبدالله الغريافي أبو شوقي أكثر من مرة في مناسبات عائلية وأهلية، وقد أعجبني في الشخصيتين الكريمتين وبشكل كبير أريحيتهما وتواضعهما الشديدين، ومن ذلك الفكر المستنير والعقلية المتفتحة التي يتمتعان بهما، إلى جانب خفة الروح وسلامة النية وبساطة الكلام، إنَّ سَمَاعَ هؤلاء الآباء وحديثهم الشيق عن الحياة أيام زمان يسترعي انتباه كل من يستمع إليهم، شعرتُ أن هناك حياة غير الحياة التي نحياها بتعقيداتها.
يرحمك الله يا أبا خالد، لقد كنت مع رفقاء دربك تخطّيتم دربًا محفوفًا بالطموح والتفاؤل والإنجاز معًا، نحن هنا أمام شخصيات أطلوا على مجتمعهم بمهنة واحدة، وبرزوا ونالوا حظًا من الشهرة والسمعة الطيبة، وكانوا علامة بارزة في مسيرة القطاع الصحي الخاص، هم أفراد سمت أرواحهم إلى أقصى ما تصل إليه الفضيلة ولكنهم كانوا في عمر الزمان قلة وهم: المرحوم الحاج علي حسن المصطفى أبو الدكتور وجيه - حصل على أول ترخيص لفتح مستودع للأدوية بالمنطقة الشرقية-، والمرحوم الحاج عبد الكريم مهنا أبو السعود أبو الدكتور عادل "صاحب صيدلية المهنا" والتي استمرت بنفس النشاط والشعار، ولكن بانتشار واسع في المنطقة، والمرحوم الحاج أحمد حسن المصطفى أبو الدكتور رياض، والمرحوم الحاج عبدالله سلمان الغريافي أبو شوقي، كان لديه أكثر من فرع. نعم، الحديث عن هؤلاء الرجال الذين غيَّبهم الموت عنا. أسماؤهم تحتضن تاريخًا ومشوارًا طويلًا حافلًا بالعطاء، هي قصة كفاح مليئة بالتجارب والدروس شكلتها الأيام، هي ثمرة التحصيل الجاد والجهد المثابر والعزم الصادق وصولًا إلى الغاية المنشودة، رصيد كبير من الخدمات والعلاقات الاجتماعية، جعلت منهم أشخاصًا أكثر تحضرًا ووعيًا وإدراكًا لمسؤوليتهم ودورهم في الحياة، عاصروا شظف الحياة وقسوتها، كانوا يتمتعون بنشاط وروح الشباب حتى أواخر أيامهم في الدنيا، فالنجاح يولد صغيرًا ويحلو كبيرًا. فعزاؤنا أنهم عملوا وأعطوا بكل ما يملكون من قوة من أجل خدمة مجتمعهم الطيب وكان عطاؤهم وافرًا، واجتهدوا وكان مجهودهم غنيًا، وأدوا وكان أداؤهم خير ما يكون الأداء، وأبلوا جميعًا بلاء حسنًا، واستطاعوا أن يعالجوا ما يمكن علاجه، مواقف إنسانية غايتُها رفع أذىً عن مريض. أو مساعدة محتاج، يحتسبون العمل لله عز وجل ثم لبلادهم ومجتمعهم والنهوض به. الحديث عن هؤلاء الرجال الوجهاء لا يمكن أن يوفيهم حقوقهم، ومهما امتلكت من قدرة على التعبير، فإنها تضيق المشاعر وخصوصًا في لحظة وداعية حزينة، تتضاءل فيها الكلمات أمام من أقاموا الصروح وشيدوا الأمجاد! سوف نتذكرهم وندعو لهم بالرحمة والمغفرة، لنتعلم من سيرة هؤلاء الرجال ما يحول بيننا وبين العجز الذي أوله حرمان، وأوسطه عذاب، وآخره استسلام، والعياذ بالله!
رحم الله الحاج سعيد علي العمران أبو خالد، وأثابه بمقدار ما أدى إلى مجتمعه من فضل، وإنه لفضل كبير. إنني أتقدم بأحر التعازي إلى أولاده الكرماء حفظهم الله وللعائلة الميمونة وإلى أحبابه وأصدقائه، وأدعو الرحمن أن يتغمد الفقيد السعيد بوافر رحمته ويسكنه فسيح جنانه، إنّا لله وإنّا إليه راجعون. والصلاة والسلام على نبينا المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين.



error: المحتوي محمي