بسلام وأنس، أجساد تتحمم في بحر مدينة جودانوف، وماء النهرين همزة وصل بين الضفاف، تدفق يسري في كيان جارة البحر، مثل شرايين الدم الباردة، ماء عذب ينهمر ذوباناً في بحر أزوف، ويحيله حلو المذاق، طعم مستساغ عن كل بحار الدنيا المفتوحة، منظر فاتن بين تمازج مياه واختلاط بشر.
ألق المدينة قوس قزح، ابتهاج وفرح، يلامس القلوب والنفوس، يضيء وجوه الشعب ألفة وطيبة، ديموغرافياً منصهرة في بوتقة واحدة، تجانس وتعايش وحب ووئام في ظل الاتحاد السوفيتي، والفنانون عينة من تلك الفسيفساء.
سألت الموسى بتعطش عن طبيعة المراسم فأجاب بفيض: "المراسم مفتوحة لأفراد الشعب وليست مقتصرة على أبناء مدينة بعينها، هي متاح للكل سواء كانوا من مدن أخرى ومن قرى نائية والفرص أيضاً مواتية لأي فرد حتى لو لم يكن مواطناً سوفيتياً، لكن لا يلتحق بالمراسم إلا من كان يحمل عضوية اتحاد الفنانين.
والعضوية لا تعطى لكل من يمارس الرسم فقط، ولا تقدم لكل فنان بأن ينظم بسهولة للاتحاد إلا بعد اختبار لقدراته وإمكانياته الفنية، بالنسبة لي قبلت لكوني فناناً أجنبياً معروفاً لديهم وخريج أكاديمية سيكروف المرموقة ولديَّ أعمال منتقاة في متحف بوشكين وفنان جرافيكي متخصص أحمل شهادة ماجستير في هذا المجال.
بشكل عام سيرتي الذاتية أهلتني مع زوجتي للانضمام للاتحاد، وسنوياً تتقدم مجموعات من الفنانين بطلبات الانتساب للاتحاد، ومع الأسف يرفض الكثير لعدم تأهلهم للمستوى المطلوب، وحده الموهوب أو المتمكن يجتاز اختبارات القبول، ويحصل بذلك على العضوية.
وهناك فنانون خارج المنظومة ينافسون الاتحاد، يفسح لهم المجال لإقامة معارضهم الشخصية أو الجماعية في صالات المؤسسة المتعددة مقابل دفع مبلغ مالي معين، يدخل ريعه ضمن خزينة مؤسسة اتحاد الفنانين".
واستوضحت من الموسى عن القيمة المادية التي يتحصل عليها العضو الفنان المحترف، فأجاب: "يعتمد هذا على حسب طبيعة العمل وجهد الفنان، المؤسسة لا تقدم لنا راتباً شهرياً محدداً أو مكافأة مستدامة، إنما نتسلم مبلغاً معيناً يقسم كراتب شبه شهري، أحياناً يزيد أو ينقص نتيجة تنفيذنا لعدد من الأعمال المطلوبة خلال سنة كاملة عبر خطة عمل يتم توزيعها على جميع الفنانين بالتساوي، ونعطى في حالة الإنجاز مبلغاً يقدر بما بين 400 و500 روبل، وهو مبلغ ليس بسيطاً إذا تصورنا أن عمال المناجم يستلمون راتباً شهرياً وقدره 700 روبل، وهم الأعلى ينافسهم أعضاء الحزب ومدراء المصانع، وأحياناً إذا اشتغل الفنان على عمل ما بحرفية عالية ومتقن من كل الجوانب الفنية، يعطى بين 700 و1000 روبل، بالنسبة لي وزوجتي نشتغل باستمرار وننفذ أيضاً جداريات مشتركة، بصراحة عملنا بجد وكفاح وعشنا في بحبوحة من العيش الرغيد".
دار في البال عن مآل الأعمال المنجزة أين تذهب، هل تتكدس في المخازن، أم تتوزع كهدايا؟ ما هو مصيرها بعد حصيلة سنوات من الإنتاج، ارتسمت على محيا الموسى ابتسامة وأجاب بحماس: " كل مبنى حكومي لابد أن يزين بعديد اللوحات، لو صادف وتجولت في داخل أي مبنى رسمي ووجدت جدرانه عارية، من دون لوحات فنية معلقة، ستسمع كلمة "بازور" - معناه عيب بالروسية - وتنبري التساؤلات؛ أيعقل هذا؟ يعني ما في ثقافة بصرية، ما في رقي؟ لأن الذوق الجمعي تربى على رؤية الجدران مزدانة بجمال اللوحات، وما بين فترة زمنية وأخرى يتم استبدال هذه الأعمال حتى لا يشعر المرتادون بالملل، فالتغيير يعطي حيوية للمكان، وكأن المباني الحكومية صالات معارض مفتوحة على مدار العام.
وهذه العملية تشرف عليها لجان فنية متخصصة، بتأكيد وحرص منها وتوجيه من القيادة العليا بأن كل مؤسسة رسمية يجب أن تقتني أعمالاً فنية توفرها لهم مؤسسة اتحاد الفنانين، والتي تستهدف جميع الدوائر الحكومية والمدارس ورياض الأطفال، والمكتبات والمسارح والمصانع وكل المرافق والمباني التابعة للدولة، وهذا تقليد متبع في عموم الاتحاد السوفيتي.
وطبعا لا يقتصر الأمر على جانب الفن التشكيلي، وإنما يشمل كل المجالات الفنية المختلفة، هناك الممثلون، والمسرحيون، والموسيقيون، يؤدون أدوارهم الفنية لعامة الشعب في الأماكن المغلقة والمفتوحة، وكل منتجي الفن عايشين أفضل من أي طبقة أخرى ما يوازيهم إلا أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ومسؤولو المصانع. في المحصلة تجد حراكاً فنياً على جميع المستويات وللفن قيمة رفيعة عالية من رأس الهرم إلى القاعدة، وأهم شيء أن الفنان متفرغ لفنه ويعيش من إبداع يديه".
وهنا بعيداً عن تدجين الفن ضمن مناخ معين، لكن المطلع على كل منجز الواقعية الاشتراكية يذهل من قوة الاشتغال الفني وبشهادة كثير من النقاد والمهتمين، وكاتب السطور يملك مجموعة كتب فنية متعددة عن ذلك المنجز باللغتين الروسية والعربية، وأيضاً مطلع عن قرب على نتاج فناني الواقعية الاشتراكية للبلدان المستقلة من الاتحاد السوفيتي، وهم أذربيجان وأوزبكستان وقرغيزستان، بالإضافة لجورجيا.
أعمال رائعة تزين قاعات متاحف هذه الدول وتعتبرها إرثاً قومياً تفاخر به بين عواصم الفن.
حالياً هناك مزادات عالمية تتنافس لاقتناء العديد من أعمال الحقبة السوفيتية، ويا للمفارقة العجيبة بالأمس كان الغرب يناصب العداء ضد الواقعية الاشتراكية وشن عليها حرباً شعواء، واليوم يبحث عنها ويروج لها و يعتبرها مكسباً بل عملة نادرة في سوق الفن؟!
إيه يا بحر ازوف أمواجك المتلاطمة هل تملك الجواب؟ وهل تدلنا على المتلاعبين بالفن ماضياً وحاضراً؟



