13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

ابن البصرة وداعًا

أيها الفنان الكبير
أيها المبدع الرائع
أيها الرائد الأصيل..
يا فارس الفن
ترجلت البارحة
عن صهوة جوادك،
ورحلت عن دنيانا الفانية، رحمك الله يا فناننا عبدالله عبدالكريم الشيخ، رحلت عنا ليل السبت 29 محرم، ودعتنا ولك من الأصدقاء كثر، كل سيسرد ذكراه العطرة معك، ولي معك جميل الذكريات وبها أعتز وأفخر، كم صورة جمعتني معك، ومع لفيف من الأصدقاء والأحباب، وكم من ليال سهرناها في (أربعائية السليمان)، نتجاذب أطراف الحديث في الثقافة والفن، وكم حديث مسترسل ضمنا على انفراد، دنوت منك مرات وكنت أريد أن تبوح لي بتباريح هوى العشاق بين العشار والزبير، وشناشيل البصرة، وتساءلت كيف لي أن أنتظر منك جوابا وأنت أفضتهم حسنا ووصفا وترجمتهم رسما، وسجلت أحاسيسهم المترعة بالحب ولوعات الأحزان؟ نعم أودعتهم يحيون بصمت متحرك، في فضاء لوحاتك الواقعية وما بعدها، أبلغتنا عن حبهم المجبول بالرقة والطيبة والأنفة، وأسمعتنا وشوشاتهم عند نسمات الأصيل، نقلت لنا زغاريد النسوة الغافيات في جوف (المشحوف) والمسافرات بين الجرفين، وأطربتنا لصوت الظامئين بمناجلهم بين مياه الهور والقصب، نقلت لنا بيوت الطين في قضاء الزبير، وأبرزت لنا الرعاة بين الرمل والزهور البرية، وأنت تتمايل طربا بألوانك المعتقة وأنغام الشجن:
(عليك أسأل، عليك أسأل من الرايح ومن الجاي، وأحن ليك، أحن ليك مثل راعٍ ويحن للناي، وأقول أصبر على غيابك وفي وما تنسى أحبابك، لا بد ما الشمس تكسر وراها فياي)...

رسمت حنينك الدائم لأرض النهرين، للناس الطيبين، للمحبين، لظلال النخيل،  للشموس الغاربة طلوعا، نسجت مواويل الفلاحين، واستوحيت طيورا وأطيافا تهيم عشقا لأرض السواد، لوحاتك قصائد وصف متيم بها، عبر رمز أو عنصر، أو بيرق، أو خط، أو زخرف، أو وشم، وأزياء ووجوه وسحنات، نلحظها بصورة مباشرة أو مدغمات مع تكوينات العمل، تتماهى رشاقة على شكل جزئيات تبرز حينا وتخفت بين ثنايا الخطوط والألوان.

رحلت إلى لندن للتخصص في مجال التصميم والطباعة وتخرجت عام 1965، ثم عدت ثانية لديار الأهل والأصحاب، ترتشف فناجين القهوة وتأكل رطب البرحي من النخيل الباسقات، شكلتهم أيقونة هوى شامخات في سلسلة أعمالك الفنية.

ذات مرة فكرت أن تعود مع من عادوا من أهل الزبير إلى منبتهم الأولي (نجد والأحساء)، واثنان من أقرب الناس إليك استوطنا الرياض، ابن خالتك رسام كاريكتير صحيفة الجزيرة الأستاذ (علي الخرجي)، وأخوك الفنان والكاتب عبدالجبار اليحيا، دعياك  للهجرة جنوبا فلم تستجب، وظلت مراودات الرحيل أو التشبث بالمكان تتأرجح في وجدانك.

وحين دقت طبول الحرب العراقية الإيرانية مطلع 1980، ودعت مرابع الطفولة والصبا وأيام الشباب، وتركت قلبك نابضا هناك، وأتيت إلى المنطقة الشرقية تبحث عن موطن والدك وخطوات أجدادك في بلاد هجر  وتذكارات العشيرة في هفوف الأحساء، سكنت الجبيل موظفا في الهيئة الملكية، وبعد التقاعد استوطنت منزلًا يقع بين الظهران والدمام...

وعن تلك الحرب العبثية بين الجارين المسلمين وغيرها من حروب العالم أفزعتك ضميرا حيا، وجسدت مآسي ويلاتها شكلا ورمزا في الكثير من أعمالك عبر فوهات البنادق والخوذات والأسلاك، الشائكة وآلات الدمار، وأبرزتها حديثا في برنامج روافد في قناة العربية، مسترسلا مع الروائي أحمد علي الزين في سرد سيرتك الذاتية بين تقلبات الحياة ومراحل الفن التي مررت بها، رسمت هموم إنسان العصر وغربته في الحياة، نوعت في اتجاهاتك التشكيلية واستنطقت التجريد بتكوينات آسرة، كل مرحلة من حياتك الفنية غنية وثرية وخصبة، كتب عنك الكثير من نقاد العرب، ومثلت المملكة في كثير من المهرجانات والبيناليات العربية والدولية، رصيدك من المعارض كبير وإنتاج من اللوحات غزير، منجزك علامة بارزة  في الفن العربي المعاصر.

زرناك مع الصحب مرات ومرات، وقلبت لنا صورك الباذخة هنداما وعز شباب ونثرت لنا عبق الذكريات العراقية، بحلو الكلام عن عراق الأمس (الخمسينات والستينات)، من أواخر العهد الملكي إلى ثورة 14 تموز، مرورا بسنين البعث، الذي لم يرق لك، لأن طريقك منحاز للكادحين، تقلب لنا (الألبومات) والصور نواطق بأمجاد، التقاطات تتكلم  باندماج في ردهات معهد الفنون الجميلة  ببغداد، متتلمذا على يد كبار فناني العراق (فائق حسن، وجواد سليم)، وكم جمعتك بالمبدعين من فنانين وكتاب وشعراء وروائيين عراقيين، مواقف عديدة وذكريات جميلة، أسماء كثيرة حدثتنا عنهم وأطلعتنا على تواقيع كتبهم المهداة إليك.

هل يرثيك سعدي يوسف الشاعر الفذ، كم رثى أخيك عبدالجبار وضمنك حرفا وذكرى، أم ينعيك الشاعر يحي عباس السماوي الذي لا يتوانى عن إرسال آخر إصداراته إليك، أم يرسمك (دمعة مسافرة) صديقك الفنان فيصل لعيبي؟!

أستاذنا وأخونا الأكبر، حضرت عدة مرات لمعارض جماعة الفنون التشكيلية بالقطيف، وافتتحت أحد معارضها السنوية، تجولت بين الأعمال مبديا إعجابك وثناءك على الفنانين والفنانات، صور وفيديوهات تؤرخ وقفاتك الأبوية الحنونة، وستبقى كلماتك المحفزة والمشجعة حية في نفوسنا، وألف تحية لمن أطلق على صالة جمعية الثقافة والفنون بالدمام (صالة عبدالله الشيخ)، عرفانا بمسيرتك الوضاءة  بأحرف من نور وتكريم لمكانتك يابن عبدالكريم .
فأنت كريم الأخلاق كريم في الفن الخلاق قامتك كبيرة في مسيرة الفن السعودي.

كم مرة أتيتك للبيت طالبا منك لوحة لتشاركنا بمهرجان الدوخلة، أو للمعرض السنوي لجماعة الفن التشكيلي يالقطيف، في كل مرة لا تردني إلا مرة واحدة وهي وقت التجهيز لمعرض احتفالية تكريم الفنان عبدالرحمن السليمان نهاية العام الماضي، لم تكن راغبا ليس من باب عدم المشاركة، لكن لأنك لا تقوى على الحركة لتختار لي لوحة من مرسمك كما السابق، فلم أجبرك أو أثقل عليك في الطلب، جلست معك عند مدخل البيت الداخلي مع أحد أقاربك، ثم استأذننا، مكثت عندك ساعة زمن والألم يعصرني وأنت تسرد لي عن أيامك الحلوة مع شريكة عمرك التي رحلت عنك قبل سنتين وخلفتك وحيدا، كنت تقول لي: "ودي أسأل عن أم علاء، أريد أن أعرف شنهو أخبارها، كيف تركتني؟ وين راحت عني؟ شوف يابو محمد البيت أشكبره! أنام بين الجدران وحيد ما حد يمي ما حد يحچي وياي!

ماذا أقول لك يا أبا علاء، كلنا راحلون..
طبعت على رأسه قبلة ثم مشيت تلك كانت قبلة الوداع.

[banner id="179034" caption_position="bottom" theme="default_style" height="auto" width="auto" show_caption="1" show_cta_button="1" use_image_tag="1"]


error: المحتوي محمي