18 , نوفمبر 2025

القطيف اليوم

الكربون.. سر وهمسة

بعد صخب الانفجار العظيم حدث هدوء مريب، لم يكن سوى الصمت والبرد والظلام، وفجأة ظهر الهيدروجين كأول حرف في كتاب الوجود. إنه العنصر البسيط، الذي تفرع منه كل شيء. سرعان ما نشأت علاقة حب وتمازج بينه وبين الأوكسجين، فتولد الماء رقراقًا صافيًا عذبًا؛ ذلك الكائن العجيب الذي جعله الله ينبوع الحياة. لكن السائل الهلامي لا يزال يتطلع لشريك ذكي ليكمل رسالته، فوجد الكربون، وانعقد بينهما ميثاق لم ينقطع، فقد كلفهم الله سبحانه وتعالى بمهمة صناعة الحياة على الأرض.

تكامل الكربون من مجرد ذرة، إلى روح اجتماعية تعرف قيمة التواصل بذكاء عاطفي، بأربع أيادٍ ممدودة إلى كل من حوله, إلى الهيدروجين، الأوكسجين، النيتروجين، وبالطبع إلى إخوته من الكربون. من تلك الروابط وُلدت الخلية، وانتسجت شيفرة الـDNA، وتشكلت سلاسل الكائنات الحية المتنوعة. لقد أنيط بالكربون أن يكون منشأ الحياة في الأرض، وباني جسور التواصل ومهندس التعارف الذكي.

وحتى نقدر قيمته فلا نبخسه حقه، لنقارنه بالسيليكون، مثلًا. فعلى الرغم من وفرته في قشرة الارض، فإنه ظل حزينًا ومكسور الخاطر، لم يهتد للماء سبيلًا، كلما اقترب منه استحال حجرًا أصمًّا. ماذا لو قامت الحياة عليه؟ إذن لكان الإنسان يتنفس غبارًا، ولما وجدت الروح لها مأوى بين القلب والنفس. لكن من رحمة الله بالسيليكون أن جعل له دورًا آخر؛ فدخل في الإلكترونيات جنديًا مطيعًا للكربون، وخادمًا له في صناعة التقنية الحديثة، وسبيلًا لرفاهية الإنسان.

استدراكًا… نعود للكربون الذي دخل في صميم جسد الأحياء ككربوهيدرات، يمدهم بالقوة والحركة، كما تمترس في باطن الأرض كهيدروكربونات، طاقة تنير المدن وتنبض بالحركة في السفن والطائرات. همس الكربون في أذن البشر: “كما أصلحت حياتكم وأعددت طعامكم وسهلت سفركم بروابطي الكربونية، أصلحوا ذات بينكم بروابط الرحمة والمحبة، وكونوا عنصر تقويم لا معول فساد وتهديم”.

ومن المدهش أن الكربون قادر على أن يتشكل فحمًا أسود كالحًا، أو أن يكون ألماسًا ناصعًا متلألئًا. عنصر واحد، لكن بوجهين متناقضين. يتشابه مع الناس، ففيهم من يختار أن يكون ملاكًا يضيء القلوب بالعلم والإيمان، وعلى النقيض في الناس من ينحدر ليكون شيطانًا يطفئ النور ويحارب الحياة. وما بين الفحم والألماس، يحسم الإنسان خياره.

ثم لنتأمل العدد الكتلي للكربون (المستقر)، إنه اثنا عشر، بعدد الشهور عند الله، وعدد الأئمة المعصومين المنصبين من الله هداة إلى الصراط المستقيم. يريد أن يقول لنا: “أنا لست وليد الصدفة، بل إنني آية من آيات الله. فبي قوام الحياة، وبرقمي إشارات هدايتكم، فاقرؤوني جيدًا”.

هذه رسالة الكون مكتوبة بفحمة كربونية على صفحة قلب أبيض، إمّا أن تكون كربونًا يمتهن التعارف والعطاء، أو سيليكونًا جامدًا لا يُثمر إلا حجرًا. فكما يحيي الكربون الأرض بروابطه، فلنعمرها نحن بروابط الرحمة والعطف والمودة. وكما يتجلى هو في الألماس نورًا يتلألأ، فلتتجلى نفوسنا بالعطاء والتضحية. وكما يذيب الكربون نفسه في الماء ليصنع لنا الحياة، فلنذب نحن شيئًا من قسوة قلوبنا بالتوبة الى الله، ولنزرع الأمل في نفوس الناس. عندها فقط سيصبح العلم حكمة، والكيمياء رحمة، والحياة كلمة إصلاح، تترقرق في القلوب.


error: المحتوي محمي