13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

غربةٌ في اللسان

ليست الغربة دائمًا في البعد عن الأرض، أحيانًا تبدأ الغربة حين لا نعود نفهم أصواتنا، ولا نجد في لغتنا مرآةً لملامحنا.

هذه ليست مقالة عن اللغة فقط… بل عن الذاكرة، والهوية، وأسباب الانطفاء البطيء.

في مقهى عربي، تتناثر على الطاولات بقايا قهوة وفتات كعك، يجلس شابان يتحدثان بلغة هجينة، كأنما يُلقون الحروف في مهبّ الريح.

“هارد” يقول أحدهما، و”دي فيشوالتي” يرد الآخر، بينما تتدلى جمل عربية مبتورة كأوراق خريفية.

هذا المشهد، الذي كان يثير الاستغراب يومًا، أصبح اليوم مألوفًا حدّ الاعتياد.

كأن اللغة العربية لم تعد تكفينا، أو لم تعد تليق بزمن اللمعان السطحي والانبهار المستورد.

لكن الخسارة لا تكمن فقط في استبدال “بوكينج” بـ”الحجز”، أو “شات” بـ”دردشة”، بل في استبدال عالَمٍ كامل من المعاني والروابط والذاكرة.

فكل كلمة أجنبية تُقال بلا ضرورة، تُقصي كلمةً عربية نشأت من بيئتنا وتربيتنا، وتُقصي معها إحساسًا متجذرًا، وتترك فراغًا لا يُملأ بترجمة.

اللغة، كما يُقال، ليست ما نتحدث به فقط، بل ما نفكر من خلاله.

وما نبوح به عندما لا نجد كلمات، وما نتركه في وجدان أبنائنا حين نروي الحكايات.

وحين تغدو هذه اللغة غريبةً على ألسنتنا، فإن الغربة لا تكون لغوية فحسب… بل وجودية.

والمأساة أن هذا التآكل لا يحدث في الشارع فقط، بل في الجامعات والمستشفيات ووسائل الإعلام.

أصبح بعض الأكاديميين يشرح لطلبته موضوعًا عربيًا بمصطلحات أجنبية لا حاجة لها، كأن الفصاحة أصبحت نقصًا، والبساطة تهمة.

وها هو الطبيب يتحدث لمريضه بـ”severe inflammation” و”root canal treatment”، بينما عينا المريض تبحثان عن فهم، لا تشخيص.

أين ذهب الوضوح؟
هل صار الغموض فضيلة؟
هل أصبح الإبهام زينة النخبة؟

حين تتحول اللغة إلى استعراض، تفقد مهمتها الأولى: أن تُفهِم.

نحن لا نخاصم اللغات الأخرى، ولا نغلق الأبواب على العالم، لكننا نأسف حين نُقصي لغتنا من أبسط مواقعها، ونتعامل معها كأنها زيٌّ تراثي نرتديه في المناسبات وننزعُه في لحظات الجدّ.

أليست اليابان تدرّس الفيزياء بلغتها؟ وفرنسا تُعنون مؤتمراتها بالفرنسية؟

فلماذا نصرّ نحن على التعامل مع العربية وكأنها حملٌ لغوي زائد، أو ترفٌ ثقافي لا يصلح للعلم والتقنية؟

في مكانٍ آخر من المشهد، تحاول أمٌ أن تحكي لابنها قصة “سندباد البحار”، لكنه يقاطعها: “ماما، وش يعني سفينة؟ قولي شيب!”

تتوقف الأم، وترتبك. الحكاية تنهار من فمها قبل أن تكتمل.

ذاك الطفل الذي لا يعرف “اليراع” ولا “الغيمة”، سيكبر وهو يظن أن “flashlight” و”cloud” هما الأصل، وما عداه غبار.

لكنّ الأمل لا ينطفئ.
في مدرسة متواضعة، يشرح أستاذ عجوز نظرية النسبية بلغة عربية فصيحة، ويثبت أن العمق لا يحتاج ترجمة.

وفي مكتبة صغيرة، فتاةٌ تترجم أحدث البحوث إلى العربية، وتمنحها حقها في أن تكون لغة للمعرفة لا للتزيين.

هؤلاء وأمثالهم هم من يُبقون الجذور حيّة، والنهر جاريًا.

ما بعد اللغة: سؤال الوجود

لسنا نخشى على اللغة لأن الكلمات تُنسى، بل لأن المعاني تُمحى، والوجدان الذي تشكّل بها يتفكك بهدوء.

فاللغة ليست فقط ما نكتبه أو نقوله، بل ما نحمله حين نصمت، وما نُصوغه في أعماقنا حين نفكّر، وما نبوح به للعالم حين نريد أن نكون.

حين تُدجّن الألسنة على مفردات مستعارة، لا يتشوّه النطق فقط، بل تتشوّه الرؤية.

وحين يصبح الغموض فضيلة، والوضوح نقصًا، فإننا لا نعيش فقرًا لغويًا فقط، بل أزمة فكرٍ وشعور.

ألسنا بحاجة إلى لغة نفكّر بها دون استئذان، ونحلم بها دون استعارة؟

لغة لا تستجدي حضورها، بل تفرضه بهدوء، كهواءٍ لا يُرى، لكنه شرطٌ للحياة.

الغرب لم يصعد بلغتنا، ولا اليابان. لكنهم صعدوا بلغتهم لأنهم أيقنوا أن اللغة ليست زخرفًا، بل جذر الشجرة.

ومن لا يسقي جذوره، لن يُثمر مهما طالت أغصانه.

ربما آن أوان أن نكفّ عن النظر إلى لغتنا كما يُنظر إلى متحف.

أن نراها كما يجب: مرآةً نُبصر بها أنفسنا، لا مجرد أداةٍ لنُعجب بها غيرنا.

لا بأس أن نتكلم لغات الآخرين، لكن الهزيمة الحقيقية… أن نتلعثم حين نتكلم لغتنا.

كما قال محمود درويش: “أنا لغتي… أنا القصيدة، والديوان، والبحر".

فكيف نبيع البحر، ونحن أبناء الموج؟


error: المحتوي محمي