13 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

الجارُ.. نصفُ الدار

قبل عدة عقود، لم تكن البيوت تُبنى على الخرائط، بل على نوايا القلوب. كان الجدار مجرد فاصل هشّ بين دارٍ ودار، بينما الجيرة هي الجسر المتين الذي تعبر عليه الطمأنينة والملح والخبز والماء والودّ، دون أن تُستأذن. لم يكن الجار شخصًا يسكن بجانبك فحسب، بل كان امتدادًا لبيتك، ظلك حين تغيب، وصوتك حين تخفت، ويدك حين تضيق بك السُبل.

وكانوا يقولونها بملء اليقين: “الجار قبل الدار.”

- حين كانت الجيرة مبدأً.. لا موقعًا جغرافيًا

في الماضي، لم يكن أحدٌ ليشتري بيتًا دون أن يسأل عن الجار. البيت قد يكون صغيرًا، بلا نوافذ ولا فناء، لكنه يصبح قصرًا إن كان الجار طيبًا. وكانت الجارة تُرضع ابن جارتها إن غابت، والجيران يقيمون الولائم في الأفراح كأنهم عائلة واحدة، ويتناوبون في الأحزان كأن المصاب واحد.

ولم يكن غريبًا أن يطرق أحدهم باب جاره ليقول له: “عندك قليلًا من السكّر؟”، أو أن يعود من السوق ليضع نصف ما اشتراه على عتبة جاره دون سؤال. كانت “الدالة” مقدسة، والأبواب تُقرع دون مواعيد، لكن تُفتح بمحبة.

- ولكن، هل تغيّر الجار؟ أم تغيّر الزمان؟

اليوم، تغيّرت الوجوه خلف الأبواب، وتبدّلت الملامح التي كنّا نعرفها. دخلنا عصر البصمة الذكية، وكاميرات الحائط، والمحادثات الصوتية التي لا تتجاوز شاشة الهاتف، بل صارت تلك الشاشات تعرف عن جيراننا أكثر مما نعرفه نحن.

الطفل الذي كان يلعب بالحوش مع أبناء الجيران، صار يلعب وحده على “الآيباد”. والأم التي كانت تحكي لجارتها أسرار اليوم عبر سور البيت، باتت تكتبها في منشور مغلق لا يراه إلا “الأصدقاء المقرّبون”. والجار الذي كان يسأل عنك إذا غبتَ يومًا، قد لا يلاحظ غيابك شهرًا كاملًا. هل تغيرت الجيرة؟ أم تغيّرنا نحن؟

• الظروف تغيّرت، لكن الوميض لم يخفت تمامًا

لم نعد نعيش في أحياء الطين والرمل، بل في عمائر وبيوت تعجّ بالأرقام لا بالأسماء، بكل طابق شقّتان  أو أكثر وبكل عمارة أقلّها خمس شقق وفلل متجاورة مع بعضها البعض، لكن لا أحد يعرف من يقطن بجواره إلّا ما رحم ربي. تغير الوضع الاقتصادي، وضاقت الأحوال، فصار البعض يخجل أن يسأل أو يُسأل. تغيّر الإيقاع النفسي للناس، فصارت الخصوصية أعلى من المحبة، والحذر أكبر من الود.ولا أنسى لربما صادفت جارًا و لربما رفعت يدك مُسلّمًا .. ربما!

ومع كل هذا، لم يخفت الوميض تمامًا.

لا يزال هناك من يطرق باب جاره في موسم التمور ليهديه قِطافه الأول. لا تزال هناك نساء ترسل صحون الطعام أو هدية في المناسبات، وأطفال يُربّون على قول: “سلّم على عمّك الجار.” لا يزال في الزوايا نور، وإن خفت، لا يزال في الأحياء من يُطفئ مصباحه ليرى إنارة جاره قبل نومه، لا يزال في القلوب من يؤمن أن الجار دارٌ، لا مجرد ساكن قربك.

لم يكن “الجار قبل الدار”، ملٍ شعبي فقط، بل كان وثيقة أخلاقية غير مكتوبة. قد تتغيّر البيئة والتكنولوجيا، لكن المبادئ التي تنبع من الفطرة لا تموت. الجار في جوهره لم يتغيّر، ما تغيّر هو مدى صدقنا في الاقتراب. نحن من اختبأنا خلف الجدران الذكية، ونسينا أن الذكاء الحقيقي في البساطة والإنسانية.

من قال إن التكنولوجيا تقتل القيم؟ هي فقط تكشف من كان يحملها صدقًا، ومن كان يُزيّن بها أحاديثه فقط.

ربما لا نحتاج أن نعود إلى الأزقة والزرانيق والأحياء القديمة، ولكننا نحتاج أن نُعيد ترتيب علاقتنا بمن يعيشون معنا نفس الحائط، نفس الجدار، ونفس الهواء، ونفس الشمس. أن نعيد تعريف “البيت” بأنه ليس فقط أربعة جدران وسقف، بل أربعة قلوب على الأقل: قلبك، وقلب زوجتك، وقلب أولادك، وقلب جارك.

الدار تُشترى بالمال،
لكن الجار.. لا يُشترى.

هو رزقٌ، ونصيبٌ، وامتحان.
فإن جاورك جار طيّب، فتمسّك به كما تتمسك بالأمان.
وإن جاورك جدارٌ صامتٌ، فكن أنت البادئ، لعلك تُوقظ فيه ما نسيه الزمان.

• لا زال هناك وميض.. لمن أراد أن يُضيء.


error: المحتوي محمي