15 , يونيو 2025

القطيف اليوم

السرقة الحلال!؟

في زمنٍ أصبحت فيه السرعة فضيلة، والتقليد شطارة، والنيّة تبريرًا، ظهرت ظاهرة جديدة تُمارَس كل يوم على موائد الطعام، في قاعات الاجتماعات، وعبر الرسائل النصية بين الأصدقاء، وداخل البيوت العامرة بالحب، وحتى في لحظات السكون بين الأزواج، دون أن يشعر بها أحد أو يعترض عليها أحد… إنها “السرقة الحلال”.

قبل أن تفرك حاجبيك دهشة، تمهل! أنا لا أتحدث عن تلك التي تستوجب استدعاء الشرطة، بل عن تلك التي تمر أمام عيوننا وتُبارَك أحيانًا بالابتسامة، وأحيانًا بالتصفيق، بل وقد تُزفّ لها التهاني:
سرقة الوقت، وسرقة الفكرة، وسرقة الدور، وسرقة الجهد، وسرقة المشاعر، وسرقة الانتباه، وسرقة “آخر لقمة” من الطبق بعد أن قلتَ إنك شبعان!

في قلب كل بيت، يعيش رجل يسرق جهاز التحكم عن بُعد، ثم يدعي أنه “ماسكه بس أشوف الساعة”، بينما هو يتنقل بخبث محترف بين القنوات ليرسو أخيرًا على مباراة قديمة بين البرازيل وألمانيا من أيام زمن الفاكس. وعلى الطرف الآخر، زوجته التي تسرق غفوة الظهر بينما هي “تتفقد الغسيل” على السطح. لا أحد يعترف، لكن الجميع يسرق، وبابتسامة.

أما الأطفال؟ فهم أساتذة السرقة الحلال بلا منازع. ترى أحدهم يختلس قطعة شوكولاتة، فإذا سألته قال: “بابا قال لي آخذها… بس هو كان نايم”، وآخر يسرق غرضًا من شنطة أخيه ثم يعيده قبل أن يُكتشف، ويقول: “أنا بس كنت أستعيره”. إنه جيل لا يخشى الشرطة، بل يخشى كاميرا المراقبة في الصالة!

في المجتمع، تنتشر هذه السرقة بصور أكثر أناقة. هناك من يسرق فكرة زميله في العمل ويعرضها أمام المدير وكأنها وحيٌ نزل عليه قبل قليل في المصعد، وهناك من يسرق اهتمام المجلس بحكاية طريفة، ثم يضيف عليها بعض البهارات حتى تصبح حكاية مشوية على الطريقة المغربية! وهناك من يسرق “الدور” في الطابور بابتسامة أبوية ويقول: “بس أستفسر”، ثم ينتهي به الحال وقد أنجز معاملته وخرج قبل صاحب الرقم نفسه!

حتى على مستوى العلاقات، هناك من يسرق مشاعر الآخر، يتغذى على اهتمامه، يقتات على صبره، ثم ينسحب في الوقت المناسب وكأن شيئًا لم يكن. وحين يُسأل: “لماذا؟”، يرد بفلسفة: “أنا ما وعدته بشيء، هو اللي كان طيب!”، وهي عبارة حديثة من قاموس “السرقة الحلال العاطفية”.

والأطرف من ذلك، أنك تجد بعض الناس يسرقون أفكار الآخرين في الحديث، يرددونها بتصرف، ثم يختمونها بعبارة “كما قلت سابقًا”، وكأنهم أصل الفكر البشري، وورثة أفلاطون، وأبناء سقراط بالتبني!

المثير للدهشة أن هذا النوع من السرقة لا يُنكر، بل يُؤطّر أحيانًا في أطر “الذكاء الاجتماعي”، و”التصرّف الحكيم”، و”الحنكة”، و”المرونة في التعامل”! وكأننا أمام محترف شطرنج يُكافَأ على كل نقلة خبيثة، لا أمام لص يختلس لحظة، أو شعور، أو جهدًا.

لكن… لماذا نمارس كل هذه “السرقات الصغيرة” ونسميها أحيانًا تصرّفًا ذكيًا أو حقًا مكتسبًا؟
لأننا نعيش في ثقافة لا تربي على احترام التفاصيل، بل على “المخرجات النهائية”. لا يهم كيف وصلت، المهم أنك وصلت. هل استعرت مجهود غيرك؟ نسيت وعدك؟ تجاوزت دورك؟ “عدّت… مشّيها!”

هل من حل؟
نعم، ولكنه لا يُباع في الأسواق، ولا يُكتب على ورق الحوائط، ولا يُدرَّس في كتب التربية. إنه يبدأ من البيت. من أن نعلم أبناءنا أن القطعة الزائدة على المائدة ليست دائمًا متاحة. وأن قول “آسف” لا يُستخدم فقط عندما نكسر شيئًا ماديًا، بل أيضًا عندما نسرق لحظة تركيز، أو شعور، أو حتى حلم أحدهم.

أن نشرح لأولادنا أن سرقة الفكرة دون إشارة لصاحبها ليست فخرًا، بل عيبًا. أن نعلّمهم أن “الدور” في الطابور يشبه العدالة؛ لا يُنتزع ولا يُورَّث. أن نُدرّبهم على قول “أعجبتني كلمتك”، بدلًا من تكرارها بعد دقيقتين على أنها وحي منزَّل.

السرقة الحلال ليست اختراعًا حديثًا، لكنها تطورت، لبست ثوبًا ناعمًا، وتحولت من فعل مُدان إلى سلوكٍ يُتغاضى عنه… ما دام صاحبه يبتسم، أو “عزيز وغالي”.

ولكن، دعونا لا نغفل: كل لحظة تُسرق من أحدهم بلا إذن، تُسجّل. ليس في دفتر حسابات البنوك، بل في دفتر الضمير… ذلك الذي لا يصدأ، ولا يُنسى، حتى لو حاولنا.

فلتكن هذه المقالة جرسًا ساخرًا، لكن محترمًا، ينادي فينا بصوت: لا تسرق ما ليس لك، حتى لو ابتسم لك العالم وهو يراك تفعل.

وختامًا… إذا أعجبتك هذه المقالة، لا تسرقها. فقط ابتسم، وشاركها بلطف، وقل: “قرأتها لعماد آل عبيدان… وخلاني أعيد حساباتي!”


error: المحتوي محمي