
كلما أستبدلُ النظارة يدفعني ثمن استبدالها المرتفع للكتابة عنها؛ أي النظارة. لم أعرف النظارة في سنّ الشباب، حينذاك أحسب كل من يلبس نظارة عجوز بلغ من العمر عتيًّا. الرؤية السليمة والقوية مثل رؤية قط الليل انتهت وصارت حلمًا مستحيلًا بعد عمر الصبا.
لبستُ النظارة الجديدة فبدت الألوانُ زاهيةً والحروف واضحة؛ الكتابة والقراءة والمشاهدة أسهل وأمتع. كيف أصف المشهد لمن لا يلبس نظارة؟ لا أدري؟ لفترة ثم بعد مدة تأتي الغشاوة، هذه ضريبة العمر التي لا فكاك منها!
ليت معضلتنا بقيت في النظارات -التي تشترى بالمال- من أقرب دكان، إنما معضلتنا في نظارات العقول التي طالما طالبنا الله -سبحانه وتعالى- أن يزيل الغشاوة عنها ونرى ببصيرتنا لأنها {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. تعال انظر كيف يعلمنا نبي الله إبراهيم عليه السلام تصحيح رؤية قلوبنا:
غطى الليل بظلامه العالم كله، وظهر أمام بصره نورٌ لامع، فنادى إبراهيم عليه السلام: هذا ربي! غرب الكوكبُ فقال إبراهيم عليه السلام: لا أحبه لأنه غربَ وغاب، لا أحبّ الآفلين! جنّ الليلُ فرأى القمرَ مشعًّا لامعًا فقال: هذا ربي! لكن مصير القمر لم يختلف عن مصير الكوكب الذي رآه من قبل، غاب القمرُ أيضًا خلف الأفق!
تأمل إبراهيم عليه السلام وقال: إذا لم ترشدني يا ربّ وتدلني عليك فسأكون في عداد التائهين! سويعات فإذا بالليل ينقضي، وتشرق الشمس من المشرق بأشعتها الجميلة الذهبية، تنثرها على كامل الأرض. وقعت عين إبراهيم عليه السلام على قرص الشمس فصاح: هذا ربي فهو أكبر وأقوى وأشعّ ضوءًا! برهة قصيرة من الزمن بعدها غربت الشمس وعاد الليلُ مظلمًا مرة أخرى. هنا أعلن إبراهيم قراره دون عودة: يا قوم لقد مللتُ كل هذه المعبودات الزائفة الباطلة التي تجعلونها شريكة لله. الآنَ عرفت أن وراء هذه المخلوقات إلهًا قادرًا حاكمًا حكيمًا وأنا متوجه إلى ذلك الإله ولن أشرك به أحدًا. أنا موحد ولست مشركًا من المشركين!
سيدي العزيز وسيدتي العزيزة: ليست مشكلتنا في نظاراتنا لكن المشكلة خلف النظارة! في القلب الذي لا يرى، وفي العقل الذي لا يفكر. الكون مليء بالآيات التي نراها بأعيننا ولا نراها بقلوبنا! كم مرة ينصحنا الله سبحانه بالإكثار من التأمل والتفكر والتدبر بالبصيرة اللا محدودة لا بالبصر المحدود؟
تطلع شمسٌ ويغيب قمر ونحن نركض وراء المادة، أسراء بصر وعقل محدود لا ينظر بعيدًا! ولو استبدلنا نظارة عقولنا كما نستبدل نظارة عيوننا لرأينا العالم بعينٍ أقرب إلى عين إبراهيم عليه السلام. كل ما في الوجود يدعو إلى التفكير؛ كل صوت، كل منظر، كل شيء!
فَيا عَجَباً كَيفَ يُعصى الإِلَهُ * أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ؟
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ * تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
وَلِلَّهِ في كُلِّ تَحريكَةٍ * وَتَسكينَةٍ أَبَدًا شاهِدُ
كم من صنم يسكن عقلي ويمنعني من رؤية الله سبحانه وتعالى؟! كثيرة لا أستطيع عدّها!