
السعادة ليست حلمًا عابرًا ولا سرابًا بعيد المنال، بل هي ثمرة تنمو في النفس حين تُروى باليقين، وتُغذى بالقناعة، وتُضيء بالرضا، ولأنها مقصدٌ أصيل في فطرة الإنسان، فقد اهتم بها الدين، وأرشدت إليها النصوص السماوية، واحتفى بها علم النفس الحديث، مؤكدةً أنها ليست متعلقة بالوفرة المادية أو المظاهر، بقدر ما هي انعكاس لتوازن داخلي وشعور عميق بالسكينة والسلام، وحين ننظر إلى السعادة من هذا المنظور، نجد أنها لا تأتي من مصدر واحد، بل من منظومة من العوامل التي تتناغم لتشكّل حياة طيبة، أشار إليها القرآن الكريم بوضوح قال جل وعلا في محكم كتابه العزيز: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة﴾ سورة النحل آية 97.
ويُعد الإيمان والارتباط الروحي بالله سبحانه وتعالى من أعظم مصادر السعادة تأثيرًا ورسوخًا، فالقلب الذي يطمئن بذكر الله ويثق في عدله ويسلم أمره إليه يعيش في ظل السكينة مهما اشتدت العواصف، لقوله جل وعلا: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ سورة الرعد آية 28. وفي هذا المعنى عبر الإمام علي -عليه السلام- عن هذه الحقيقة بقوله: "من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس" نهج البلاغة.
وإذا كان الإيمان يغذي الروح بالطمأنينة، فإن العلاقات الإنسانية الصادقة تغمر القلب بالدفء، فهي داعم أساسي للسعادة، فالحياة لا تزدهر في العزلة بل في الدفء الذي تمنحه الأسرة لأفرادها، والطمأنينة التي تبثها الصداقة، والرحمة التي تتجلى في التراحم بين الناس، حيث نجد ذلك في الحديث المروي عن النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-: "خير الناس أنفعهم للناس" الكافي ج2 ص306. وروي كذلك عن الإمام جعفر الصادق -عليه السلام- قوله: "تواصلوا وتباروا، فإن الله يحب التواصُل" الكافي ج2 ص175.
فإذا كانت العلاقات الإنسانية الصادقة تمنحنا الدفء، فإن الرضا والامتنان يرويان القلب من الداخل ويفتحان عيني الإنسان على النعم التي بين يديه، فالذي يرضى لا يحزن والذي يشكر لا يحقد، وقد وعد الله سبحانه وتعالى الشاكرين بالزيادة قال جل وعلا في سورة إبراهيم آية 7": ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾. وكما قال الإمام علي -عليه السلام-: "القناعة مال لا ينفد، والرضا راحة النفس" نهج البلاغة حكمة رقم 57.
وإلى جانب الإيمان والعلاقات والامتنان يظهر عنصر لا يقل أهمية هو الشعور بالإنجاز وتحقيق الذات، فهو شعور يمنح صاحبه معنى، ويشعر بأنه ليس عابرًا في الحياة، بل له أثر وقيمة سواء أكان الإنجاز علميًا أو عمليًا أو ذاتيًا، ويولد ذلك لدي الشخص احترامًا للذات والشعور بالتحرر من الفراغ، قال -جل وعلا- في سورة النجم آية 39: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾. وكذلك نجده في قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عليه السلام-: "قيمة كل امرئ ما يُحسنه" شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين- ابن ميثم البحراني ص 61.
وإن من أكثر ما يبعث السكينة ويغرس السعادة في النفس، البساطة وتجنب التعقيد والمقارنات، فهي تقي الإنسان من مشاعر النقص والغيرة، لأنها تبعده عن تقييم ذاته بمعايير غيره، وتدعوه للنظر إلى ما بين يديه برضا وامتنان، فالنفس المتصالحة لا تنشغل بما يملكه الآخرون، بل تفرح بالقليل وتعيش في سلام داخلي يثمر الطمأنينة والرضا، وقد قيل بحق: "من قنع استغنى".
ولعل أوسع أبواب السعادة وأسرع تأثيرًا هو العطاء ومساعدة الآخرين، وهو باب عظيم لا يعود بالنفع على المحتاج فقط، بل ينعكس أثره مباشرةً على نفس المعطي، فيشعر بأنه فاعل في الخير، وصانع للفرق، وهذا الشعور يغمر صاحبه بالفرح والسعادة، في الحديث المشهور عند الفريقين عن النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-: "أفضل الناس أنفعهم للناس" رواه الطبراني في الأوسط وصححه الألباني في الجامع الصغير/ جامع الأخبار- للطبرسي. وعن الإمام جعفر الصادق -عليه السلام- أنه قال: "ما من عمل أحب إلى الله -عز وجل- بعد الفرائض من إدخال السرور على المؤمن" الكافي ج2.
ولا يمكن أن نغفل أثر الصحة الجسدية والنفسية فهي وعاء السعادة وميدانها فلا راحة مع وجع دائم ولا انشراح مع اضطراب نفسي غير معالج، وكلنا نعلم أن النوم الجيد والتغذية المتوازنة والنشاط البدني المنتظم، عوامل مرتبطة تسهم في تحسين الصحة النفسية والجسدية والشعور بالسعادة، ففي الحديث عن ابن عباس عن النبي محمد -صلى الله عليه وآله- أنه قال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" البخاري حديث رقم 6412.
وفي النهاية، فإن من أجمل مصادر السعادة كذلك، ما يُعرف بالعيش في الحاضر والاستمتاع باللحظة وهي كلمة نسمعها كثيرًا من المقربين "عيش لحظتك" واستمتع بها دون اجترار للماضي أو قلق من المستقبل، فالزمن الحقيقي هو الآن واللحظة التي تمر لن تعود، وقد عبر عنها الإمام علي -عليه السلام- في نهج البلاغة للشريف الرضي حكمة رقم 336" عندما قال: "ما مضى فات والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها"، فالسعادة قرار نابع من فهمٍ عميق للحياة واختيار تجيده القلوب المتصلة بالله المحبة للخير الواعية لمعناها الحقيقي. ويبقى سؤال يستحق التأمل: هل تبحث عن السعادة فيما حولك، أم نسيت أنها كانت في داخلك طوال الوقت؟