لا تُحكى قصة الإنسانية دون أن يتردد صدى اليتيم في أعماقها، فهو الشاهد على تحولات الزمن وتقلبات المجتمعات، والمرآة التي تعكس وعي البشرية وضميرها. وقد كان لليتيم حضورٌ عميقٌ في مسيرة الإنسان، بدءًا من فجر التاريخ، مرورًا بدعوة النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وصولًا إلى يومنا هذا.
*اليتيم في ظل الجاهلية: انكسارٌ بلا أمل*
عاش اليتيم في عصور الجاهلية حالةً مأساويةً تُجسِّد غياب العدالة وافتقاد الإنسانية. كانت مجتمعات ما قبل الإسلام تقوم على العصبية القبلية والنظام الطبقي، حيث كان اليتيم محرومًا من الحماية الاجتماعية والاعتبار الإنساني. لم يكن له في قاموس الجاهلية نصيرٌ سوى قوته إن امتلكها، أو قبيلته إن رحمت ضعفه. فالحقوق كانت رهينة القوة، والدم يُفتدى بالسيف، والمال يُورث بالمحاباة.
في ذلك العصر، كان اليتيم يمثل الحلقة الأضعف في سلسلة اجتماعية لا ترحم، يتعرض للاستغلال والتهميش، وينظر إليه كعبء ثقيل لا كشخص يحمل أملًا أو طاقة مستقبلية.
*اليتيم في ضوء الرسالة المحمدية: انقلاب المعايير*
حين بزغ فجر الإسلام على يد النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- كان اليتيم محورًا رئيسًا في الخطاب الإلهي، لا بوصفه فردًا مستضعفًا فحسب، بل بوصفه معيارًا لقياس عدالة المجتمع وتقواه. ولعل أعظم شاهدٍ على ذلك أن النبي نفسه كان يتيمًا، وكأنّ السماء أرادت أن يكون حامل الرسالة هو الذي جُرِّد من السند القبلي منذ صغره، ليكون كل يتيمٍ في هذه الأمة امتدادًا روحيًا له.
لقد جاء القرآن الكريم ليُرسي مبادئ رعاية اليتيم ضمن منظومة شاملة، تبدأ من الجانب النفسي والعاطفي، وتمر عبر البعد الاجتماعي والثقافي، وصولًا إلى تجسيد الرحمة العملية. قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ (الضحى: 9).
هذه الآية لم تُخاطب الجوارح فقط، بل خاطبت القلوب، وأرست قاعدةً جديدةً في التعامل مع اليتيم، ليس من باب الشفقة المجردة، بل من منطلق التكريم الإنساني والمساواة.
*اليتيم في فكر أهل البيت عليهم السلام: اليتيم كرسالة تربوية واجتماعية*
تميّزت مدرسة أهل البيت -عليهم السلام- بنظرةٍ فريدةٍ لليتيم، إذ لم تُقدّمه بوصفه مجرد شخص يحتاج إلى إعالةٍ مادية، بل كشخصية تستحق التربية والرعاية ليكون ركنًا أساسيًا في بناء المجتمع.
الإمام علي -عليه السلام- وهو الذي نشأ في كنف النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- جعل رعاية الأيتام من أولويات حكمه، إذ قال في وصيته لمالك الأشتر: “اللهَ اللهَ في الأيتام، فلا تُغبُّوا أفواههم، ولا يُضيَّعوا بحضرتكم”.
هذه الكلمات لم تكن مجرد وصية حاكم لرعيته، بل كانت فلسفةً متكاملةً في رعاية اليتيم، تُشدد على تغذيته روحيًا وعاطفيًا قبل أن تُعنى بطعامه ولباسه.
وفي حديثٍ آخر، قال الإمام الصادق -عليه السلام-: “مَن مسح على رأس يتيمٍ رحمةً، كان له بكلِّ شعرةٍ مرت عليها يده حسنات”.
هذا الحديث يحمل بُعدًا نفسيًا بليغًا؛ فمجرد المسح على رأس اليتيم -وهو فعلٌ بسيط- يتحول إلى عملٍ عظيمٍ، لأنّه يبعث في نفس اليتيم شعورًا بالأمان والانتماء، ويغرس فيه ثقةً بأن المجتمع لم يهمله ولم يتخلّ عنه.
*اليتيم في ميزان القرآن الكريم: الإنسان في جوهره*
ما يلفت النظر في خطاب القرآن الكريم تجاه اليتيم هو التوازن بين العاطفة والمسؤولية. فاليتيم ليس مجرد موضوعٍ للعطف، بل هو فردٌ من المجتمع ينبغي دعمه ليحقق ذاته. وقد ربط القرآن الكريم بين الإيمان الحقيقي والإحسان إلى اليتيم، فقال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ (الإنسان: 8).
فالآية تقدم اليتيم في سياقٍ يجمع بين العطاء الواعي والحب الصادق، لتؤكد أن الإحسان إلى اليتيم ليس مجرد عملٍ اجتماعي، بل عبادةٌ تنبع من أعماق الضمير المؤمن.
*اليتيم في المجتمع المعاصر: تحدياتٌ ومسؤوليات*
اليوم، ورغم تطور الأنظمة الاجتماعية والمؤسسات الإنسانية، لا يزال اليتيم يعاني أزماتٍ نفسية واجتماعية تتطلب فهمًا أعمق. ففقدان الأب لا يعني فقط غياب المعيل، بل يعني في كثير من الأحيان انهيار السند العاطفي والأسري، ما يُلقي باليتيم في دوامةٍ من القلق والاغتراب.
ومن هنا، فإن بناء منظومةٍ متكاملةٍ لرعاية اليتيم لا ينبغي أن تقتصر على تقديم المال أو التعليم فحسب، بل يجب أن تشمل ما يلي:
1. *التنشئة النفسية السليمة*: عبر تعويضه عاطفيًا، وزرع مشاعر الثقة والاعتزاز في نفسه.
2. *التكامل الاجتماعي*: بدمجه في المجتمع وتعزيز قدراته ليشعر بأنه فردٌ فاعلٌ لا مستضعف.
3. *الرعاية الثقافية والفكرية*: من خلال توسيع مداركه ومنحه فرص النمو العلمي والمعرفي.
*نبض أخير: نحو مشروع إنساني شامل*
اليتيم ليس مجرد ضحيةٍ للظروف، بل هو مشروعُ إنسانٍ قادرٍ على العطاء والتغيير إذا أُحسن احتضانه. والنظرة التي قدّمها الإسلام خاصةً في ضوء تعاليم النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وأهل بيته -عليهم السلام- تقدم للعالم نموذجًا إنسانيًا متكاملًا يعيد لليتيم كرامته، ويجعل من رعايته معيارًا لرُقيّ المجتمعات ووعيها.
فكما قال الإمام علي -عليه السلام-: “*ما جاع فقيرٌ إلا بما مُتِّع به غنيٌّ”.*
فلتكن رعاية اليتيم اليوم مشروعًا أخلاقيًا وإنسانيًا يحوّل معاناته إلى طاقةٍ تُثري الحياة وتُعلي قيم العدل والمساواة.



