
ليلةُ الجمعةِ من يومِ الخامسِ عشرَ من شهرِ شعبانَ، تاريخٌ لا ينساهُ المسلمونَ عامةً، والشيعةُ الاثنا عشريَّةَ خاصةً، فهي ليلةٌ تتجددُ عبرَ الأزمنة، جيلًا بعدَ جيلٍ، لما تحملهُ من قدسية وروحانية عظيمة. كيف لا، وهي تحملُ ذكرى ميلادِ منقذِ البشرية، الإمام المهدي (عجلَ اللهُ فرجَهُ الشريف)، الذي وُلِدَ في الخامسِ عشرَ من شهر شعبانَ عامَ 255 هـ، ليكونَ رمزًا للعدلِ والرَّحمةِ المُنتظَرَةِ.
ومع حلولِ هذهِ الليلةِ المباركةِ، يستعدُّ المؤمنونَ لاستقبالِها بقلوبٍ عامرةٍ بالإيمانِ، فهي مناسبةٌ عظيمةٌ تستدعي الإعدادَ الكبيرَ لإحيائِها بالعباداتِ والأعمالِ الصالحةِ، في أجواءٍ تسودُها الروحانيةُ والتضرعُ إلى اللهِ تعالى.
وبما أنَّ المناسبةَ عظيمةٌ وتحملُ في طيَّاتها الكثيرَ من القيمِ الروحانيةِ والإيمانيةِ، فإنَّ القارئَ والمتتبعَ يُدركُ تمامًا العديدَ من الأعمال التعبديةِ والأعمال الحسنةِ التي تُقامُ في هذهِ الليلة، مثل إقامة الصلاةِ والدعاءِ والتصدقِ وتوزيعِ الهدايا الماليةِ أو العينيةِ تعبيرًا عن الفرحِ والبركةِ. لذلك، لن أتطرقَ إلى هذهِ الجوانبِ المتعارفِ عليها، بل سأُسلطُ الضوءَ على جانبٍ آخرَ بالغِ الأهميةِ، وهو السلوكياتُ غيرُ المحبذةِ التي تصدرُ من بعضِ القِلَّةِ.
للأسف، هذه القلةُ هي التي تستحوذُ على المشهدِ العامِّ، فتتحوَّلُ إلى حديثِ الناسِ، أو كما يُقالُ بلغةِ العصرِ: "الترند".
للأسف، هذهِ الفئةُ أصبحت الصوتَ الأعلى في الشوارعِ، حيثُ تمارسُ سلوكيات لا تمتُّ لهذهِ الليلةِ المباركةِ بصلةٍ، وتُسيءُ إلى قدسيتها بدلًا من أنْ تعكسَ روحانيَّتها. ومن أبرزِ هذهِ السلوكياتِ التي باتت تطغى على المشهدِ: تجمعاتُ أصحابِ الدراجاتِ الهوائيةِ والناريةِ بالمئاتِ، حيثُ يقومُ البعضُ بإغلاقِ الطرقِ والتجمهرِ في أماكنَ مزدحمة، مما يُسبِّبُ الإزعاجَ والخطرَ لأنفسهم وللآخرينَ، فضلًا عن إعاقةِ حركةِ المرورِ وتعطيلِ الناسِ الذينَ يرغبونَ في قضاءِ هذهِ الليلةِ في أجواءِ السكينةِ والعبادةِ. إن هذهِ التجمعاتِ العشوائيَّةِ، رغمَ أنها قد تبدو في ظاهرها نوعًا من الاحتفالِ، إلا أنها تتحولُ إلى مصدرِ قلقٍ وخطر، حيثُ لا يتمُّ الالتزامُ بقواعدِ السلامةِ، وقد تؤدِّي إلى وقوعِ الحوادثِ المؤسفةِ.
مظاهرُ الفوضى في الأماكنِ العامة، حيثُ يقومُ البعضُ بأفعالٍ تتنافى مع روحِ المناسبةِ، مثل التجمعات الصاخبة في الشوارعِ العامة، وإطلاق الأصوات العالية، والتصرُّف بطريقةٍ تخرجُ عن نطاقِ الاحترامِ والالتزامِ بالآدابِ العامةِ. لا شكَّ أنَّ التعبيرَ عن الفرح أمرٌ مشروعٌ، ولكن يجبُ أنْ يكونَ ضمنَ حدودِ الذوقِ والاحترام، بحيثُ لا يتحوَّلُ إلى مصدرِ إزعاجٍ أو سلوكيات غيرِ مسؤولة تؤثِّرُ سلبًا على الآخرينَ.
عدمُ مراعاةِ قدسيةِ المناسبة وأجوائها الروحانية، ففي الوقتِ الذي يحرصُ فيهِ الكثيرونَ على العبادةِ والتقرُّبِ إلى الله، نجدُ البعضَ ينشغلُ بسلوكياتٍ لا تمتُّ إلى روحِ هذهِ الليلةِ بصلة، مما يُحوِّلُها من فُرصةٍ للتأملِ والإصلاحِ الذاتيِّ إلى مجردِ تجمعاتٍ صاخبة تفتقرُ إلى المعنى الحقيقيِّ للاحتفاءِ بهذهِ الذكرى العظيمةِ.
إن هذهِ التصرفات، وإنْ بدتْ تصدرُ من قلةٍ، إلا أنها للأسف أصبحت المشهدَ الطاغي في بعضِ الأماكن، مما يُسيءُ إلى الصورةِ العامة لهذهِ الليلة العظيمة. لذا، لا بدَّ من وقفةٍ جادَّةٍ لإعادة الأمور إلى نصابها، وتصحيح هذا السلوكِ بحيثُ يكونُ الاحتفاءُ بهذهِ المناسبة وسيلةً لنشرِ القيمِ النبيلة والتقوى، وليسَ وسيلةً لإثارةِ الفوضى والتصرف بطرقٍ بعيدةٍ عن الأخلاق والقيم الإسلاميَّة.
مسؤوليةُ المجتمع في معالجة هذهِ السلوكياتِ: الكثيرُ من الوعاظِ، سواءٌ من الخطباء أو العقلاء يسعونَ سنويًّا لترشيد هذهِ السلوكيات وتحذير الشباب من التصرفات غيرِ المسؤولة، لكنْ للأسف، تأتي هذهِ التوجيهاتُ أحيانًا بعد فواتِ الأوان، عقبَ وقوعِ الحوادث أو انتهاءِ المشاحنات التي كان يمكنُ تفاديها بالوعيِ وضبطِ النفس.
لذا، تقعُ المسؤوليةُ على الجميعِ، من آباءٍ وأمهاتٍ، وإخوةٍ وأصدقاءٍ، وأفرادِ المجتمع كافة، أن يكونَ لهم دورٌ فاعلٌ في توجيه من حولهم وترشيدهم، والتأكيدِ على أهميةِ الاحتفاءِ بهذهِ الليلةِ المباركة بما يليقُ بها، بعيدًا عن الفوضى والمظاهرِ السلبية. فمسؤوليةُ الحفاظِ على قدسيةِ هذهِ المناسبة لا تقعُ على عاتقِ الوعاظِ فقط، بل هي مسؤوليةٌ جماعيةٌ تبدأُ من الأسرةِ وتمتدُّ إلى المجتمع بأسرهِ.
جهودُ الدولة في الحفاظِ على النظام:
لا يمكنُ إغفالُ دورِ الدولة وجهودها الكبيرة في هذهِ المناسبة، حيثُ تنتشرُ الدورياتُ الأمنيةُ في مختلف المناطق لضمانِ سلامةِ الجميع، والحفاظِ على النظام، ومنع أيّ تصرفاتٍ قد تخرجُ عن الإطار الصحيح للاحتفال.
لذلك، يبقى على الجميعِ التعاونُ والالتزامُ بروحِ المسؤولية، ليكونَ الاحتفاءُ بهذهِ الليلةِ المباركة مشرفًا، ويعكسُ قيمها الحقيقيةَ من عبادةٍ، وتراحمٍ، وفرحٍ منضبط. نأملُ أن تكونَ ليلةُ النصفِ من شعبانَ مناسبةً جميلةً تملأها البركةُ والسكينةُ، وتنتهي بكلِّ خيرٍ وسلامٍ على الجميعِ؛ لتبقى آثارُها الطيبةُ حاضرةً في القلوبِ والمجتمعِ، وتكونَ عنوانًا حقيقيًّا للفرحِ المنضبطِ بالقيمِ، وأن تصبحَ هذه السلوكياتُ جزءًا من الماضي، فلا نشهدَ تكرارَها هذا العامَ ولا في الأعوامِ القادمةِ.