أخبرينا يا جازرة ماذا فعلتي بحياة الأولين، المعلقين بجدائل الليل، الملتحفين بسموم الگيض، أيسمع أنين صبي دون العشرين؟ أينظر بعين الرأفة لعجوز جاوز التسعين! أي رجال هم؟ إنهم مأسورون بك سعيًا للعمل. يا جازرة يا سيدة الدواليب، يا قرينة الثور في "خبك" المقيد، تناديه بأنين المنجور "نييين نييين"، فيجاوبك زفيرًا "بفففف"، ترداد على أوتار حبال الرشا والسريح، تواشج نغم على إيقاع أقدام "السگاي" القائد لكما جيئة وذهابًا، تائه بردح أشواط كأنه في حومة ميدان، ظمآن والماء بين يديه، هو المسجون بينكما حتى نسي صلاة ربه!
انهماك منه أم نسيان وغفلة؟ من يلتمس له العذر؟ فحراكه مع الثور قبل تنفس الصبح إلى ما بعد صلاة الظهر، مستنزف في وجل، يبلع الآهات يصيح الويل، معلقًا بين الأكل واللا أكل، مكتوم بين اللا والنعم، ينظر لطعام قدمته "مرة نوخذاه" يشتهيه ولا يذوقه، رآه وكأنه لم يره، ضاق الصبي ذرعًا، فالضنك أخذ منه مأخذه، راودته نفسه بترك الثور وشأنه لكنه خائف عليه أن يهيم على وجهه، وإن أقدم فسوف يسأل عن مراد فعلته، سيجيبهم: سلوا حرفة إبليس هي من تجيب!.
تبقى الإجاباب مفتوحة على مصراعيها بصدر رحب من لدن الحاج عبدالله علي العقيلي، الناقل لحكايات الجازرة وقصص الدواليب وما جرى فيهما من قبل أن يخلق، وبعد أن وعى على الدنيا، تشنفت آذانه على صوت المنجور وقصص أجداده، ملازمًا لآبائه وأعمامه في مهنة الزرع، راقب أفانين الحرث وسبل السقاية وخبر مواسم الحصاد، لامست يداه بعضًا من جهد الأولين وتلونت بطين الأرض، فهو العارف بشجون الجازرة ومصطلحاتها وبأدق تفاصيلها، وهندسة الدواليب وأسماء رجالاتها، فهو الشاهد الأخير على تلك الأمجاد المرئية وغير المرئية.
تتنوع الدواليب الزراعية بتعدد أسمائها وأحجامها عبر شريط أخضر ممتد من حدود مقبرة تاروت (المصلى) مرورًا بشمالها وقليلًا نحو جنوبها، زاحفًا باتجاه الشمال والشمال الغربي عابرًا "جبلة العگير"، وبتعرجات تتسع بين الخارجية ودرب الزور حتى تخوم منطقة الجوال وشمالها قليلًا، واصلًا نحو الغرب طولًا، لينتهي حول محيط مقبرة (الدهر)، بمحاذاة بداية (المگطع)، وهو الممر البحري بين جزيرة تاروت إلى واحة القطيف، تقدر مساحة الشريط بـ3 كيلو طولًا في 2 كيلو عرضًا، يزيد أو ينقص قليلًا عند بعض الأماكن، محصورًا بين حدود مقبرتين، وكأنهما للدواليب علامة تنصيص، بداية من وسط الجزيرة وانتهاء بالقصب و"گرم البحر" غربًا، مروج خضراء تتنعم بالنماء زهوًا، تقع بين منازل الأموات، تروى بماء الركايا الباردة على امتداد المواسم، زروع متدرجة بألوان الخضار وألوان الثمار، أغلال حصاد جادت بها أراضي الخصب تهب الحياة للكادحين.
للدواليب جغرافية زراعية تختلف عن توزيعات معامير فريق الأطرش الحالية، حيث تتشكل عبر تقسيمات سطحها الموزع ضمن مساحات صغيرة نظرًا لمحدودية وصول المياه، بخلاف حجم ضواحي المعامير التي تمتاز بالطول والعرض، بسبب وفرة المياه نظرًا لاستخراج مياه العيون الإرتوازية.
مساحة مستطيل الدواليب بين (3 م × 2 أو 4× 2,5) موزعة بانتظام تتجاور بين بعضها البعض، تفصلها عن بعض خطوط ترابية عرضها 30 سم، بارتفاع 20 سم، تسمى "كاريه" المرصوصة رصًا، تكفي لدوس وعبور أقدام "المسگي"، الذي يذرعها جيئة وذهابًا لمعاينة وصول الماي عند نهاية المستطيل الصغير الذي يسمى "شرب"، وكل سبع أو ثماني أشراب، تسمى "إيده " يتنوع فيها المزروع بين برسيم وفجل وبصل وجزر وبگل وحندبان وطماطم وباذنجان وبامية وقرع وريحان.
إذا كان الدولاب يحتوي على عدد (9 ايده) فيطلق عليها "3 شطيب" أي كل ثلاثة (ايده) تساوي (شطيبًا) واحدًا. أما مستطيل المعامرة فيسمى ضاحية وكل 7 ضواح أو 8 تسمى "باب"، بمعنى هذه المعامرة تحتوي على (6 بيبان) وكل 3 بيبان تسمى "قفل" مجموعها قفلان أو ثلاثة على حسب عدد البيبان، من هذه التعريفات يستدل على مدى حجم كل من المعامرة والدولاب.
تعتبر الدواليب في جزيرة تاروت بعد بساتين النخيل أقدم من المعامير، فيما بعد تحول معظمها إلى معامير فتوسع حجم المستطيل، كان يدعى شرب، ثم تحول إلى ضاحية بمساحة أكبر، نظرًا لتوفر المياه عبر حفر الآبار المعروفة بالعيون، التي مدت الزرع بماء وفير طوال الوقت، فتغيرت هندسة وتقسيمات المستطيلات.
إذا بين الدولاب والمعامرة، ليس تغيرًا في أسماء المستطيل بل تغير في المساحة، لكن ظل القاسم المشترك بينهما في الأسماء الداخلية وما يحيط بهما، حيث يكون شكل المستطيل بين الاثنين مغلقًا من جميع الاتجاهات ما عدا جهة واحدة أي الضلع المتقابل الأصغر التي تقع في وسطه فتحة تسمى "الفوهة" معبر دخول الماء القادم من أخدود ضيق بعرض نصف متر، يسمى "سمط"، الذي يغذي جميع المستطيلات ذات اليمين أو الشمال،أحيانًا يمتد طولًا وينعطف إلى جهات أخرى لري المستطيلات الأبعد، وعلى جانبي "الفوهة" مساحتان ترابيتان واصلتان بين المستطيل و"السمط"، تسمى و"جنة"، واحدة جهة اليمين وأخرى على اليسار.
حين يمتلئ المستطيل بالماء أي "الشرب أو الضاحية" تغلق "الفوهة" بقطع من ليف مشبع بالرمل، يسمى "اسكار" أو "توليمة" ليذهب الماء للمستطيل الثاني ثم الثالث والرابع وهكذا. من ضمن تعريفات المستطيل الداخلية، فالأمام يسمى "وجنة الصدر" والقسم الأخير و"جنة الرأس"، يحده "الجابور" ويكون ضعف مساحة "الكاريه" مرتين وهو الموازي للوجنات كلها من الجهة المقابلة. هذه الدواليب الزراعية البالغ عددها أكثر من 400 دولاب قبل 100 عام معروفة بأسمائها، وتعداد مساحاتها وجودة منتوجاتها، تعاقبت على إعمارها أجيال وأجيال، لكن جل المزارعين العاملين فيها لا يملكونها! فهم يستأجرون الأرض من أحد الملاك ويقومون باستصلاحها طوال عام أو عامين أو خمس باتفاق مكتوب قابل للتجدد، ثمة فلاحون يملكون بعضًا من الدواليب، لكن غالبية المزارعين يأخذون الدولاب "بالاكار" أي استئجار، وهم مقيدون بالتزام عند نهاية كل موسم، فعند استخراج المحصول السنوي من الدولاب يوزع على أربع فئات حسب عدد نوعية ثمر النخيل وتعداد "گلات التمر":
1- مالك الدولاب أي صاحب الأرض: له سنويًا تقريبًا "20 گلة تمر" قد تزيد أو تنقص.
2- الحكومة: تأخذ جزءًا من محصول التمر ضريبة زكاة.
3- شريك جازرة: يأخذ جزءًا من "الگت" دون تمر ولا حشائش، ليس له من الخضار في شيء، فقط البرسيم.
4- مستأجر الدولاب: وهو القائم عليه كدًا وتعبًا فله النصيب الأوفر من المحصول، بتفاوت نسبي من عام لعام.
إذا المستأجر القائم على فلاحة أرض الدولاب ليس وحده من يملك حرية التصرف في منتوجاته، إنما يشاركه "الملاك" وهيئة الزكاة و"شريك جازرة"، والأخير يأخذ جزءًا من "البرسيم"، محددًا له بعضًا من المستطيلات الخضراء، لا يسمح له بقطف من "الصادري" أي الشرب الأول ولا من "الرايسي" أي الشرب الثاني مهما كان النبت قويًا أو ضعيفًا، يقوم "بجز الگت" من "أخو الرايسي" أي قطع حصاد الشرب الثالث، وله أيضًا السادس، بعد كل شربين له واحد.
لأن شريك الجازرة ليس مثل مستأجر الدولاب الذي دفع كل شيء من تشييد الجازرة وشراء مستلزماتها وتربية الثيران والسقي عليها وهندسة الدولاب، ورعاية مستمرة طوال العام، الشريك لا يساهم بالمال، إنما هو يد عاملة، ينفذ ما يأمره النوخذة من حرث وسقاية وتشذيب النخيل لا يعطى "كروه" مقابل شغله، إنما يأخذ محصولًا محددًا من ضواحي "الگت"، قد يساعده أبناؤه في قطع ونقل البرسيم من الدولاب لبيعها في السوق، شخص يسترزق الله من بيع الگت نتيجة شغله في الدولاب، وقد يشتغل عند نوخذة معين لمدة عام أو أكثر ثم ينصرف للبحث عن عمل آخر.
يحدث عند بعض الدواليب مشاركة آخرين، يقال فلان أو فلانة لهما سهم من دولاب معين فتعطى أو يعطى گلتين تمر أو ثلاث گلات حسب المنتوج السنوي، وذلك عند تعبئة التمر في سلال الخوص"الگلة" الذي يطلق عليه "چناز التمر" أي رصه على بعضه رصًا، ليصبح كتلة واحدة، وزن الگلة الواحدة يساوي "منين" والمن الواحد يساوي 16 كيلو، يعطى صاحب السهم من لدن مالك الأرض من مجموع ما تحصل عليه من حصاد الدولاب طوال العام سواء تمرًا أو مالًا.
يحدث أحيانًا أن المالك لا يتعب نفسه في نقل التمر المخصص له من الدولاب إلى مكان آخر سواء لبيته أو عرضه في السوق فيقوم بالبيع على المستأجر مباشرة، أي القائم على فلاحة الدولاب. عادة عند استئجار أي دولاب هناك اتفاقية مكتوبة على الورق بين المالك والمستأجر وفيها كل التفاصيل الوارد ذكرها أعلاه. وحسب السارد الحاج عبدالله العقيلي أن دولاب "الجويزرة" الذي اشتهروا به قام عليه أجداده بينما الأرض ملك "لعائلة الشماسي"، وكلا الطرفين يجددان الاتفاقية كل خمس سنوات، المدهش أن هذا الدولاب مر على استزراعه أزمان عديدة بلغت قرنًا ونصف القرن، تناوب عليه الجدود وانتقل للأولاد وتسلمه الأحفاد وذلك نتيجة التفاهم التام والثقة المتبادلة بين العائلتين (الشماسي والعقيلي) وهناك من يماثلهم من عوائل أخرى. يرحب صوت المنجور للقادم من أعماق بحر المگطع، بالحاج (..... الشماسي) من القلعة لجمع محصول أملاكه من الدواليب، حين يأتي يأوي ليلًا عند عائلة آل حبيل أو الخباز، يسند لرجل من أحد العائلتين بالذهاب للقائمين على دواليبه، بقوله: "داكو جاء الملاك يبغى عگبة گت لحمارته" يجد الرجل فرصة لقطف أكثر من حجم ربطة البرسيم المعتادة وحين يريد أن يرفعها لا يستطيع فيساعده أحد العاملين في الدولاب لوضعها على ظهر الحمارة وعندها تسمى "جنبيه" نظرًا لكبر حجمها، تتوزع أكلًا ليس لحمارتين وإنما تكفي لجميع دواب الحظيرة!
"الملاك" شخصية محترمة ومقدرة عند مستأجري الدواليب، كل يطلب رضاه، لا يحصل فقط على عدد "گلات التمر" المتفق عليها حسب حصاد العام، إنما يعطى ما جادت به الأرض من حشائش وخضار، وحصة من حليب وزبد ولبن، كرم عفوي من لدن نفوس الطيبة. وعلى ضفاف الركايا وتموجات الزروع وعند مساءات نسائم الصيف، يفد الملاك من علية القوم في قلعة القطيف الشامخة عقولًا وبناء ومالًا، شخصيات مرموقة مثل: الشماسي، السنان، ابن نصر الله، العوامي، أبو السعود، يجوبون الدواليب الخضراء بكامل هندامهم المميز "الصخمة والعمة" كالمشايخ، يتأملون المساحات الخضراء، ويدور الكلام بعين الرضا، يستريحون قبل مغيب الشمس عند الجازرة وعلى صوت حفيف أوراق أشجار البمبر يمضغون بضعة تمرات، ويتمطقون بشرب اللبن الرائب من البقرات السمان، ثم يأخذون مستحقاتهم من مواسم الرطب، گلات تمر تحمل على ظهور الحمير، قوافل خير خارجة من كل دولاب، تسير عبر الزرع وطين البحر قاطعة "خليج كيبوس". حين قص الحاج عبدالله علي العقيلي هذه التقسيمات المعمول بها زمن الدواليب لكل من المستأجرين والملاك، توجهت له مستفهمًا، هل الدواليب تحتوي على زراعة النخيل؟ لأنه أخبرني سابقًا بأنها مقتصرة فقط على زراعة الخضار والحشائش وبضعة نخلات قليلة تسمى "نشو" تكون نابتة عند الأطراف، فأجابني بالآتي: "الدواليب حايشة من كل شيء، فيها نخيل واجد، ما هو داير مغروسة، انزرعت لحالها، -كيف نبتت- أفلت أية طعامه وبعد مدة تگوم، مثل ما تگول هذا عصفور أو بلبول شال ارطبه من عذگ نخله وطار بها وظل ينگدها ينگدها، كل طبت الطعامة من بوزه على أرض الدولاب، أو حتى أنت إذا أكلت ارطبه أو تمرة أفلت طعامتها تگوم بعد، خاصة إذا هي مندفنة بعد اشوية"، قصده انغرست قليلًا في التربة. بلهفة رحت أسأله وكأني لا أعرف شيئًا عن طبيعة البذور، مستفهمًا عن مراحل النمو، وكيف لنواة التمر بعد حين تصبح نخلةوارفة الظلال، وبرغبة في التوصيف النابع من رجل خبر الأرض وعرف أبجديات الزرع حيث يقول: "هذي الطعامة فوگيها گشر لكن داخلها بشيمة بيضاء يسموه اللب،أول شيء تأكل من بشيمتها، تالي كل طلع ليها عرگ في الأرض، كل يبست البشيمة، إذا مر عليها الماي أو جاها المطر تتغدى من عرگها، بعدين يطلع ليها عرگ فاني وفالف ما تشوف إلا الأرض تشققت وطلعت ورگة خضره گاسية شوية، تكبر وتكبر وتصير فسيلة، تالي تصير نخلة نشو يسموها سلس، ومرات تصير نخلة عدلة يسموها خصبة، لون ثمرها شهلي أو أحمر، أو تطلع فحال لكن ما تطلع إخلاصة".
وأوضح شيئًا مهمًا عن كرم الطبيعة: "هالفسيلة إذا كبرت كل طلع تحتها بنات يشربوا من جذعها يطلعوا على أمهم -نفس النوع- يعني هي خصبة كلهم خصبة واللي ما هي خصبة يسموها اسلوس وبناتها نفس الشيء سلوس، وثمرهم ما هو داك الذوگ يعطوه للحياوين، راعي الدولاب يشيل البنات، يفرصخهم من أمهم، زمن الأول يظلوا، إن بغى منهم للغرس گبعهم وغرسهم في مكان فانٍ، أو يظلوا يكبروا يصيروا عكرة، حتى في الترويس إذا ركب واحد يروسهم، لأن الترويس فيه تسليچ مال السلة وگصاف گروف وتنبيت، يخلي كرب في هذي اللي ركب فيها، يركب من الخضر يسلچ هذه البنت بالأم، تالي يحول ويبطهم، يبط الكرب".
تعمدت أن أضع كلام الحاج عبدالله حرفيًا في بعض المواضع كما هو دون تدخل مني، فقط تساؤلات محددة وذلك من أجل الوقوف على شفافية المحاورة والاقتراب من توصيفه شخصيًا. ربما لا يفهم الكثير منا ماذا تعني هذه المصطلحات الفلاحية، إلا من كان قريبًا من عالم الزراعة، وأيضًا قصدت من وضع كلامه باللهجة الدارجة، للاقتراب بعض الشيء من كلام الأولين، برغبة لإحياء منطقهم شبه المندثر والذي بات تراثيًا فقد جرى عليه ما جرى بفعل تطور الحياة وإهمال وتضاؤل مساحة الزراعة.
ثمة توضيحات لبعض المصطلحات التي وردت على لسان الحاج عبدالله علي العقيلي: "الطعام أو الطعامة": نواة التمر.
"الخصبة والسلس": نوعان من أنواع النخيل، ويرتبط دائمًا اسم الثمر باسم النخلة نفسها.
الفسيلة: النخلة الصغيرة جدًا التي لم تعرف فصيلتها إلا إذا أثمرت.
"يفرصخهم ويگبعهم":بمعنى ينزعهم.
"عكرة" مجموعة فسايل تحيط بالأم من جميع الجهات وملتصقة فيها.
"الترويس": هو تنظيف النخلة، إزالة الليف القديم وقص كل ما هو يابس من كرب وعسق وسعف، أي تهيئة النخلة لموسم جديد وتشتمل على المراحل التالية:
"التسليچ": إزالة بعض الشوك من بداية الخضر وكل ما يعترض يد الفلاح.
"السلة": شوك النخلة، أو بداية الخضر، حاد وصلب قبل أن يتحول إلى وريقات خضراء ثم يتمدد ليصبح سعفًا.
"گصاف لگروف": فتح قلوب النخلة لتهيئتها لعملية التلقيح.
التنبيت:التلقيح، حيث يؤخذ السف من الفحال "ذكر النخل" ويضرب به طلع النخلة "الأنثى" يتناثر عليها مثل البودر على حبيبات طلعها، لتأتي بثمر قوامه القوة والصلابة والحلاوة.
"بطاط الكرب": شطف الكرب أو تجليس النخلة وهو إزالة الجزء الأكبر منه ليصبح بمثابة درج لأقدام الفلاح لتسهيل الصعود والنزول.
هذه المصطلحات المحلية لاتزال إلى اليوم متداولة في مزارع فريق الأطرش، ومن يجوب معامير الشمال سيسمع من وجوه الطيبة هذه اللهجة، التي تعود لزمن الدواليب وأبعد، حيث بساتين النخيل ضاربة جذورها منذ تفجرت "عين العودة" قبل عدة قرون.
إن الحشائش والخضار هما الركيزتان الأساسيتان لكل دولاب، لم يكن زرع النخل مقصودًا بحد ذاته، إنما الطير ألقى النواة من فمه واندست في التربة، جاءها الغيث، فارتوت وربت وأنبتت فسيلة ثم كبرت وأنجبت بنات يحيطونها من كل جانب، تتغذى وتسقيهم من نفسها كأنها كائن يدب على الأرض يدرك معنى الأمومة، يقوم الفلاح بفصلهم "الفسايل الصغار" عن أمهم ثم يقوم بغرسهم فرادى بشكل منتظم على طول محيط الدولاب، وأيضًا تتكاثر النخيل عبر يد ترمي النواة عرضًا تدحرجها الريح وتدوسها أرجل الثور أو الفلاح فتنغرز في جوف التربة، تعاركها الطبيعة وتسويها بذرة حية تنمو وتشق الأرض، تكبر وتصبح بعد سنين نخلة شامخة كثيرة الثمار.
ما أكرم الطبيعة وما أبهاها، مثلما تحب الأرض وتعتني بها، فهي تجود عليك بما لا تحتسب. في عقيدة الفلاح لكل نخلة مقامها، إن كانت النخلة خصبة أو غيرها ممن تماثلها في الجودة والعطاء، سوف تبقى سواء توسطت المستطيل الأخضر "الشرب" أو اعترضت مجرى الماء، هناك طرق لتغيير مسار "السمط"، بحفر عطفة تسمى "كتلة" أشبه بالكوع في السباكة، وذلك من أجل المحافظة على الفسيلة وبقائها محل منبتها، بل تدعم برص التربة على امتداد محيطها والذي يسمى "جابور"، هذا الأمر إذا كانت من النوع الجيد أكله، ما دون ذلك مثل السلسل يقلع وينقل لأطراف الدولاب.
من طريف ما قاله الحاج عبدالله العقيلي عن أجداده حين كانوا في عهد الصبا، عن فسيلة مجهولة لم تعرف بعد هويتها، يسرد مع تغير في نغمة صوته لتقارب رجل طاعن في السن أقرب للخنخنة مع مد صوت بعض الكلمات، ثمة تداخلات مني عرضيًا ليسترسل بعدها في التوضيح وإعادة التوصيف، يقول: "من بعض القصص، جد أبوي حجي عبدالله العقيلي، قايمة فسيلة، مثل ما تقول هذا السمط -يشرح بيده على الأرض- وقايمة هنية على الحافة أو في الوسطى اشوية، الأول جوع، قام أحد أولاده، ما أدري هو أبو رضي أو حجي مكي، قاموا وگلعوها وجدبوها وأكلوها، بعدهية كويريب، الحين مر أبوهم إلا هي مگلوعة صرخ عليهم (ها يا ملاعين الوالدين إحنا حاسبين بنسوي ليها كتلة)، -ما هي الكتلة يا أبوحسن؟ الكتلة، مثل ما تقول هي قايمة في السمط بيعوج السمط يعني بيكتله، بيگوم ليها جابور، لأجل تصير في وسطة الجابور، يعني بيحوطها بالتراب رفع مقدار شبرين أو فلافة حتى تستقوي الكتلة، يبغى يكتل السمط، تقعد على الجابور حتى تصير عدلة، هذا هو جاي السمط كل لفة عنها، يسوي ليها كتلة- طيب أبوحسن ومناك ديك الجهة ويشيه شرب؟- يا شرب يا جابور، وجنة له، لأن هذا السمط وهذي الوجنة، وجنة منه ووجنة منه وفي الوسطى السمط، والنص الفوهة حتى يدخل الماء منها، هي عفر قايمة وسط السمط أو على حافته، ويبغى يخليها يمكن تطلع خصبة عدلة أو فحال عدل، بعديه صغيرة، كويريب ما بان فمرها، هم مروا عليها شالوها وجذبوها، دندن برأسه ويقول، الله يغربلكم أحنا حاسبين بنسوي ليها كتلة"، مع جر كلمة "كتلة" طويلًا.
تظل أنفاس الحاج عبدالله العقيلي طويلة في سرد يوميات عوالم الدواليب. وهذا هو الحاج حسون محمد حسين آل سالم المتيم بحب الأرض وقد شارف على التسعين، لا يهدأ له بال ولا يهنأ له عيش إلا بالحركة في دولاب أبناء أخته حجي رضي وحجي مكي العقيلي، يطعم الحياوين بعناية وتؤدة، يحرث، يسقي، يشذب الأغصان، "يجز الگت" يحصد، يتصدى بعض المرات للعمل في الجازرة، غير معترف بأنه بلغ من العمر عتيًا، وهو العارف بأن الجازرة تريد همة الشباب "ما تبغى شومة اشويب ضعيف البدن"، ارتجوه أبناء أخته بالكف عن السقاية "لا تعب روحك يا الخال" يصمت عنهم وكأنه لا يسمعهم
جوابه العمل.
ترتبط الجازرة بقطعة تسمى "علگة" -بكسر العين- وهي حبل يتجاوز مترًا ونصف المتر معقودة من الأعلى بحبل الرشا وطرفها السفلي مربوط بالدلو، والهدف منها حتى لا يتضرر حبل الرشا بسبب تشبعه بماء الركية من كثرة الغطس في الماء، فـ"العلقة" هي وصلة حبل جاهزة للربط بين طرفيها تستبدل بقطعة جديدة في أية لحظة تتعرض فيها القديمة "للخرس" أي تلف في أنسجة الحبل.
ذات يوم حجي حسون بن سالم شمر عن ساعديه "يسگي" عند الجازرة وبين حمل ورفع الدلو تقطعت "العلگة" فارتمى منها الدلو، توقف تدفق الماء، ذهب الحجي بإحضار علگة جديدة منشورة على أغصان البمبرة، لكنه أخذ وقتًا أكثر من اللازم لتبديلها، عند ذلك نفذ صبر الشاب محمد بن حريسين "المسگي" عند الأشراب أي ضواحي الزرع أتى إلى الحاج حسون وهو متبرم: "يا أبو إبراهيم هذي ما صرت علگة اللي بتغيرها، عربكها چديه بسرعة، هذي ما يبغى ليها شيء"، وبينما هو يركبه بدلًا عنه رماه انتقادًا لحركته البطيئة: "فاگة على فاگة وأصبحت فاگة عروس، خيطنا سمن بعگب وأصبحت خوص بخوص".
رد عليه حسون بصوت عال: "امأمل أنا ما أفهم غزو الرجال، روح على شغلك الله يهديك، جاك الماي"، تناثر الضحك بعد أن عاد تدفق الماء، مزاحًا ومداعبات، هي نسمات عليلة تخفف عن المتعبين عناء العمل.
ديدن صاحب كل دولاب تواصل تدفق الماء من أجل نماء الزرع خوفًا من يباسه وبالأخص أيام الصيف حيث الحرارة قاتلة، يريد حسب مناداتهم، "دلو يسفگ دلو" أي دلو محمل بالماء يسكب سريعًا ويمتلئ أسرع دون توقف بمثابة سباق. بالمقابل ثمة رجال طاعنون في السن لا يريدون التوقف عن العمل، وممن يضرب بهم المثل حجي شلهوب المحدودب الظهر والذي يتوكأ على عكاز حين يمشي لكنه عند العمل يتحول إلى إنسان آخر منتصب القامة كأنه في عمر الشباب حيث "يضرب الصخين" أي يحرث الأرض وتقليبها، ويلتقط التمر المتساقط عند جذوع النخيل "يرقط" ويفتل الحبل، و"يجز الگت"، ولا يهتم بأي تعليق أو توصيف عابر، لأنه يرى حياته لا تستقيم إلا بالعمل وحتى لو قوس الظهر. يقولون له: "بسك يا أبو أحمد، واجد عليك من هالخدمة" يرد عليهم بابتسام مع تغير في نبرة صوته: "مانا مخلي للدود سهم" مع مط كلمة سهم، قصده إذا وافاه الأجل المحتوم وشيع إلى مثواه الأخير لن يحصل دود قبره على شيء يأكله، فجسمه خالٍ من أي لحم، فقط جلد على عظم.
عند الأولين العمر ليس ذي بال، يصلون إلى أرذل العمر، وهم متمسكون بالعمل، وبالمقابل من كان صغيرًا واشتد عوده فدرب الجازرة في انتظاره، صبية بالكاد خطت عوارضهم يتقدمون للعمل في رحاب الدواليب، عرف متبع يرن في الآذان، أي شخص بالغ عاقل قادر على العمل لا يقف مكتوف اليدين، يشمر ساعديه ويضرب على صدره "أنا رجال، أنا كفو"، يدخل في معمعة الشغل برغم المشقة والتعب، ثمة صور متباينة تحمل ذاك التحدي. تزخر الدواليب على امتداد مساحتها بالصبية المتطلعين للعمل، شبان في مقتبل العمر يسعون لتكوين حياتهم الشخصية، يجاهدون بكل طاقتهم في سبيل رضا النوخذة فلا يرفضون له طلبًا ولا يتقاعسون عن مهام الدولاب في أي وقت.
هذا صبي حاضر عند كل مناداة يقوم بالمهمات على أكمل وجه، من سقي وحرث وسقاية، يسارع بكل ما أوتي من قوة وشدة بأس، ليكون عند حسن ظن سيده، لا يقول له أف ولا يتوانى عن طبيعة أي عمل، السمع والطاعة حاضرتان وبحرص شديد، روح وثابة وبسعي أشد، خشية أن يستغنى عنه يومًا ما، ويؤتى بغيره ثم يقعد ملومًا حسيرًا!
غايته رضا سيده ليتمسك به وفي نفس الوقت يكون محبوبًا عنده وكذا بقية الأسرة.
صبي مرضي عنه ينادى عليه "عبود هاب ريح"، حيث يوميته تتدرج من نصف ربية إلى ربية وصولًا إلى ربيتين ومن كان ذا حظ عظيم يتحصل على ثلاث ربيات، أحيانًا يلازمه طفل يتيم يتحصل على آنة أو آنتين شابعًا بطنه، إحسانًا وجزاء شكورًا، رأفة بالضعفاء، لكن العبء الأكبر يقع على ظهر الصبي وسواعده الحاضرة، مستنفرًا للعمل من بزوغ الفجر إلى دلوك الشمس، موزعًا بين شؤون الدولاب وبيع المنتوج في السوق والذهاب للبحر "يباري الحضرة" يقضي يومه بين "الزعر" ورائحة روث البقر والدوران في الخب مع الثور، و"جز الگت" والسقاية والحرث. وعند اقتراب العيد أكرامًا له إذا أتى لمحسن بعد تحسونة نوخذاه "ورفاقه يأتي الدور عليه، ولا بأس من أخذ "دواء حمام" لتنظيف "عانته وإبطيه" ويأخذ نصيبه من "الچسوة" لبسة العيد، فهو محسوب عليهم كأنه أحد أفراد الأسرة حيث ينام في مجلس بيت سيده يطعم حتى الحياوين ويشعل الحطب ويغسل أواني الطبخ. وإذا رجع إلى أهله، فرحة أمه لا تسعها الدنيا تأخذه بالأحضان مع صوت الروبيات التي "تگرگش" في جيبه، ترن مع دقات القلوب، تنادي عليه بزفة مبكرة بين أخواته في حوش البيت "عبود جاب المكدة، عبود خطبوا له مرة".
يقال بأن الدنيا حظوظ والناس أصناف والأمزجة متقلبة والطباع ليست بواحدة وأصابع اليد ليست متساوية. أي حظ ناله ذاك الصبي اللاهث ركضًا بين ضواحي الزرع والرادح في خب الثور والناظر للدلو بين الركية والجابية، مستنزفًا في يوم كان عبوسًا قمطريرًا، وسط لهيب الشمس وحرارة الگيض، يئن من اشتداد العطش، لسانه كالخشبة اليابسه، يسبح في عرقه، يتنفس التعب أثر التعب محروم من برهة راحة لا يراد منه أن يتوقف صوت المنجور، كل لحظة يصيح الويل، راح ينشد مكابداته بصوته المجرور والمبحوح غبنًا: "الغوص شهبوب والجازرة مدة، شيبت رأسي الجازرة، الله يشيبها، حتى صلاة ربي ما أتمكن أصليها، مرة أصليها ومرة ما أصليها، ومرة أصليها على كارية من كواريها"، وبينما هو يتضور جوعًا ويتقلب وجعًا على وجع، راح يمني النفس بوجبة دسمة تنسيه كل معاناته، حتى جيء بالطعام المرتقب من لدن زوجة سيده، وضعت الغذاء ثم انصرفت لتدعه يأكل على راحته، ترك الجازرة وهو "يتنهم" وأقبل على الطعام كالملهوف، حين فتح غطاء القدر أغلقه حالًا، غذاء وأي غذاء، فهو لا يسد رمقًا ولا يسمن من جوع، حدث نفسه "هذا غذاء ولا فضيل سفرة"! بكى ودموع العين تنحدر بأسف على حظه المتعوس، فاختلطت مع عرقه، أخذ ينفث زفرات، وقف يشكو همه للجازرة التي أشعلت رأسه شيبًا: "جابت غذاي مرة نوخداي واستقليته، من حرة الروح لا أكلته ولا لي عين رديته، من حرة الروح قمت للفور وهديته"! فر الثور هاربًا يحوم بين الدواليب، صبي عاف كل شيء، سألوه: "ويش سويت يا صبينا؟" رد عليهم: "اسألوا حرفة إبليس هي اتعلمكم أنا ما عندي جواب، في أمان الله"! هل غاب عن ذهنية هذا "النوخذة" وأعوانه الرحمة بالضعفاء، صبي حملوا عليه فوق طاقته، لم يتركوا له فسحة راحة حتى نسي صلاة ربه، مستعبدًا طوال الوقت، وبعد أن طفح به الكيل، ترك كل شيء باحثًا عن نوخذة آخر يكون به رحيمًا، يقال "من سعى لقى" لم يلبث عشية وضحاها إلا وهو يسقي على إحدى الجوازر. غاب الإنصاف والتقدير عن هذا النوخذة، ومثل شخصه يتكرر في الزرع والبحر وعبر أزمنة مختلفة.
إن كانت الدواليب عمادها الجازرة فالصبيان هم المبكرون لتشغيلها يوقظون سيدهم بأعلى أصواتهم. مر زمن على دولاب "أم سنورة" بلا صبي، وصحابه ظن أنه في غنى عنهم، ذات يوم غالبه النوم برغم الجوازر تملأ المكان أنغامًا وصخبًا، تداخلت الأصوات مع حلمه وكأنه واقع يعايشه، رأى نفسه في المنام يسقي ويساقي زرعه، فجأة انتبه من نومه، فز تائهًا غير مصدق أن دولابه بلا ماء، ارتبك في نهوضه، جرى مسرعًا ولم يتمكن حتى من غسل وجهه، سمع تعليقًا من عابر: "إلا گاعد اليوم افيل"، أي جلس متأخرًا عن ميعاد السقاية، ازداد تشتتا، وادرك أن أغلب الدواليب ارتوت بفيض ماء الركايا وآخرها دولاب العقيلي جاره الشرقي، فراح ينشد بتهكم: "كل الجوازر سقت إلا أم سنورة، حتى لجويزرة سقت وصاح منجورة"!
يا صاح كم من أشجان وغناوي تعب ومواويل صبر حملتها الدواليب، تلكم قصص تفيض بالكفاح والأرق والسطو والقهر والعزم والبأس، مساحات خضراء على مد البصر، سرت الناظرين أزمانًا، وتهادى فيها الطير ألوانًا، وتعاقب على ازدهارها أجيالًا وأجيالًا، آوت المتيمين بحب العمل، صناع الفرح والأمل، الراقصون طربًا لجني الحصاد، فيض ثمار، فخر لأراضي الخصب، ارتوت بدمع العين والجهد والعرق.
من يبحث عن حدود تلك الدواليب، عن أسمائها، اتجاهاتها، دروبها، تقسيماتها، ناسها، أين ارتحلوا
من عمّروها ليل نهار؟ ما حال جغرافيتها اليوم؟ هل أصبحت نسيًا منسيًا، قليل جدًا تحولت لمعامير شاخصة في سوح مزارع فريق الأطرش الحالية، لكن الغالبية العظمى تحولت لصناديق خرسانية وشوارع إسفلتية!
يا أيها العود الأخضر من نحرك؟
ويا شجر من اقتلعك؟
ويا نخل من قطع جذورك؟
من قبر تلك الجنات والعيون؟
أبكي على قبور الراحلين
بين مقبرتين المصلى والدهر،
وبعصرة قلب: يا رب الحبوب والثمار ماذا فعلنا بنعمتك!
تحية بأريج الريحان: للأخ حسن (فيصل) عبدالله العقيلي وابن الخالة مهدي إبراهيم الصفار، وابن الخال محمد حسين هبوب، لتمثلاتهم الوصفية في طرق الري وهندسة ضواحي الزرع.





انهماك منه أم نسيان وغفلة؟ من يلتمس له العذر؟ فحراكه مع الثور قبل تنفس الصبح إلى ما بعد صلاة الظهر، مستنزف في وجل، يبلع الآهات يصيح الويل، معلقًا بين الأكل واللا أكل، مكتوم بين اللا والنعم، ينظر لطعام قدمته "مرة نوخذاه" يشتهيه ولا يذوقه، رآه وكأنه لم يره، ضاق الصبي ذرعًا، فالضنك أخذ منه مأخذه، راودته نفسه بترك الثور وشأنه لكنه خائف عليه أن يهيم على وجهه، وإن أقدم فسوف يسأل عن مراد فعلته، سيجيبهم: سلوا حرفة إبليس هي من تجيب!.
تبقى الإجاباب مفتوحة على مصراعيها بصدر رحب من لدن الحاج عبدالله علي العقيلي، الناقل لحكايات الجازرة وقصص الدواليب وما جرى فيهما من قبل أن يخلق، وبعد أن وعى على الدنيا، تشنفت آذانه على صوت المنجور وقصص أجداده، ملازمًا لآبائه وأعمامه في مهنة الزرع، راقب أفانين الحرث وسبل السقاية وخبر مواسم الحصاد، لامست يداه بعضًا من جهد الأولين وتلونت بطين الأرض، فهو العارف بشجون الجازرة ومصطلحاتها وبأدق تفاصيلها، وهندسة الدواليب وأسماء رجالاتها، فهو الشاهد الأخير على تلك الأمجاد المرئية وغير المرئية.
تتنوع الدواليب الزراعية بتعدد أسمائها وأحجامها عبر شريط أخضر ممتد من حدود مقبرة تاروت (المصلى) مرورًا بشمالها وقليلًا نحو جنوبها، زاحفًا باتجاه الشمال والشمال الغربي عابرًا "جبلة العگير"، وبتعرجات تتسع بين الخارجية ودرب الزور حتى تخوم منطقة الجوال وشمالها قليلًا، واصلًا نحو الغرب طولًا، لينتهي حول محيط مقبرة (الدهر)، بمحاذاة بداية (المگطع)، وهو الممر البحري بين جزيرة تاروت إلى واحة القطيف، تقدر مساحة الشريط بـ3 كيلو طولًا في 2 كيلو عرضًا، يزيد أو ينقص قليلًا عند بعض الأماكن، محصورًا بين حدود مقبرتين، وكأنهما للدواليب علامة تنصيص، بداية من وسط الجزيرة وانتهاء بالقصب و"گرم البحر" غربًا، مروج خضراء تتنعم بالنماء زهوًا، تقع بين منازل الأموات، تروى بماء الركايا الباردة على امتداد المواسم، زروع متدرجة بألوان الخضار وألوان الثمار، أغلال حصاد جادت بها أراضي الخصب تهب الحياة للكادحين.
للدواليب جغرافية زراعية تختلف عن توزيعات معامير فريق الأطرش الحالية، حيث تتشكل عبر تقسيمات سطحها الموزع ضمن مساحات صغيرة نظرًا لمحدودية وصول المياه، بخلاف حجم ضواحي المعامير التي تمتاز بالطول والعرض، بسبب وفرة المياه نظرًا لاستخراج مياه العيون الإرتوازية.
مساحة مستطيل الدواليب بين (3 م × 2 أو 4× 2,5) موزعة بانتظام تتجاور بين بعضها البعض، تفصلها عن بعض خطوط ترابية عرضها 30 سم، بارتفاع 20 سم، تسمى "كاريه" المرصوصة رصًا، تكفي لدوس وعبور أقدام "المسگي"، الذي يذرعها جيئة وذهابًا لمعاينة وصول الماي عند نهاية المستطيل الصغير الذي يسمى "شرب"، وكل سبع أو ثماني أشراب، تسمى "إيده " يتنوع فيها المزروع بين برسيم وفجل وبصل وجزر وبگل وحندبان وطماطم وباذنجان وبامية وقرع وريحان.
إذا كان الدولاب يحتوي على عدد (9 ايده) فيطلق عليها "3 شطيب" أي كل ثلاثة (ايده) تساوي (شطيبًا) واحدًا. أما مستطيل المعامرة فيسمى ضاحية وكل 7 ضواح أو 8 تسمى "باب"، بمعنى هذه المعامرة تحتوي على (6 بيبان) وكل 3 بيبان تسمى "قفل" مجموعها قفلان أو ثلاثة على حسب عدد البيبان، من هذه التعريفات يستدل على مدى حجم كل من المعامرة والدولاب.
تعتبر الدواليب في جزيرة تاروت بعد بساتين النخيل أقدم من المعامير، فيما بعد تحول معظمها إلى معامير فتوسع حجم المستطيل، كان يدعى شرب، ثم تحول إلى ضاحية بمساحة أكبر، نظرًا لتوفر المياه عبر حفر الآبار المعروفة بالعيون، التي مدت الزرع بماء وفير طوال الوقت، فتغيرت هندسة وتقسيمات المستطيلات.
إذا بين الدولاب والمعامرة، ليس تغيرًا في أسماء المستطيل بل تغير في المساحة، لكن ظل القاسم المشترك بينهما في الأسماء الداخلية وما يحيط بهما، حيث يكون شكل المستطيل بين الاثنين مغلقًا من جميع الاتجاهات ما عدا جهة واحدة أي الضلع المتقابل الأصغر التي تقع في وسطه فتحة تسمى "الفوهة" معبر دخول الماء القادم من أخدود ضيق بعرض نصف متر، يسمى "سمط"، الذي يغذي جميع المستطيلات ذات اليمين أو الشمال،أحيانًا يمتد طولًا وينعطف إلى جهات أخرى لري المستطيلات الأبعد، وعلى جانبي "الفوهة" مساحتان ترابيتان واصلتان بين المستطيل و"السمط"، تسمى و"جنة"، واحدة جهة اليمين وأخرى على اليسار.
حين يمتلئ المستطيل بالماء أي "الشرب أو الضاحية" تغلق "الفوهة" بقطع من ليف مشبع بالرمل، يسمى "اسكار" أو "توليمة" ليذهب الماء للمستطيل الثاني ثم الثالث والرابع وهكذا. من ضمن تعريفات المستطيل الداخلية، فالأمام يسمى "وجنة الصدر" والقسم الأخير و"جنة الرأس"، يحده "الجابور" ويكون ضعف مساحة "الكاريه" مرتين وهو الموازي للوجنات كلها من الجهة المقابلة. هذه الدواليب الزراعية البالغ عددها أكثر من 400 دولاب قبل 100 عام معروفة بأسمائها، وتعداد مساحاتها وجودة منتوجاتها، تعاقبت على إعمارها أجيال وأجيال، لكن جل المزارعين العاملين فيها لا يملكونها! فهم يستأجرون الأرض من أحد الملاك ويقومون باستصلاحها طوال عام أو عامين أو خمس باتفاق مكتوب قابل للتجدد، ثمة فلاحون يملكون بعضًا من الدواليب، لكن غالبية المزارعين يأخذون الدولاب "بالاكار" أي استئجار، وهم مقيدون بالتزام عند نهاية كل موسم، فعند استخراج المحصول السنوي من الدولاب يوزع على أربع فئات حسب عدد نوعية ثمر النخيل وتعداد "گلات التمر":
1- مالك الدولاب أي صاحب الأرض: له سنويًا تقريبًا "20 گلة تمر" قد تزيد أو تنقص.
2- الحكومة: تأخذ جزءًا من محصول التمر ضريبة زكاة.
3- شريك جازرة: يأخذ جزءًا من "الگت" دون تمر ولا حشائش، ليس له من الخضار في شيء، فقط البرسيم.
4- مستأجر الدولاب: وهو القائم عليه كدًا وتعبًا فله النصيب الأوفر من المحصول، بتفاوت نسبي من عام لعام.
إذا المستأجر القائم على فلاحة أرض الدولاب ليس وحده من يملك حرية التصرف في منتوجاته، إنما يشاركه "الملاك" وهيئة الزكاة و"شريك جازرة"، والأخير يأخذ جزءًا من "البرسيم"، محددًا له بعضًا من المستطيلات الخضراء، لا يسمح له بقطف من "الصادري" أي الشرب الأول ولا من "الرايسي" أي الشرب الثاني مهما كان النبت قويًا أو ضعيفًا، يقوم "بجز الگت" من "أخو الرايسي" أي قطع حصاد الشرب الثالث، وله أيضًا السادس، بعد كل شربين له واحد.
لأن شريك الجازرة ليس مثل مستأجر الدولاب الذي دفع كل شيء من تشييد الجازرة وشراء مستلزماتها وتربية الثيران والسقي عليها وهندسة الدولاب، ورعاية مستمرة طوال العام، الشريك لا يساهم بالمال، إنما هو يد عاملة، ينفذ ما يأمره النوخذة من حرث وسقاية وتشذيب النخيل لا يعطى "كروه" مقابل شغله، إنما يأخذ محصولًا محددًا من ضواحي "الگت"، قد يساعده أبناؤه في قطع ونقل البرسيم من الدولاب لبيعها في السوق، شخص يسترزق الله من بيع الگت نتيجة شغله في الدولاب، وقد يشتغل عند نوخذة معين لمدة عام أو أكثر ثم ينصرف للبحث عن عمل آخر.
يحدث عند بعض الدواليب مشاركة آخرين، يقال فلان أو فلانة لهما سهم من دولاب معين فتعطى أو يعطى گلتين تمر أو ثلاث گلات حسب المنتوج السنوي، وذلك عند تعبئة التمر في سلال الخوص"الگلة" الذي يطلق عليه "چناز التمر" أي رصه على بعضه رصًا، ليصبح كتلة واحدة، وزن الگلة الواحدة يساوي "منين" والمن الواحد يساوي 16 كيلو، يعطى صاحب السهم من لدن مالك الأرض من مجموع ما تحصل عليه من حصاد الدولاب طوال العام سواء تمرًا أو مالًا.
يحدث أحيانًا أن المالك لا يتعب نفسه في نقل التمر المخصص له من الدولاب إلى مكان آخر سواء لبيته أو عرضه في السوق فيقوم بالبيع على المستأجر مباشرة، أي القائم على فلاحة الدولاب. عادة عند استئجار أي دولاب هناك اتفاقية مكتوبة على الورق بين المالك والمستأجر وفيها كل التفاصيل الوارد ذكرها أعلاه. وحسب السارد الحاج عبدالله العقيلي أن دولاب "الجويزرة" الذي اشتهروا به قام عليه أجداده بينما الأرض ملك "لعائلة الشماسي"، وكلا الطرفين يجددان الاتفاقية كل خمس سنوات، المدهش أن هذا الدولاب مر على استزراعه أزمان عديدة بلغت قرنًا ونصف القرن، تناوب عليه الجدود وانتقل للأولاد وتسلمه الأحفاد وذلك نتيجة التفاهم التام والثقة المتبادلة بين العائلتين (الشماسي والعقيلي) وهناك من يماثلهم من عوائل أخرى. يرحب صوت المنجور للقادم من أعماق بحر المگطع، بالحاج (..... الشماسي) من القلعة لجمع محصول أملاكه من الدواليب، حين يأتي يأوي ليلًا عند عائلة آل حبيل أو الخباز، يسند لرجل من أحد العائلتين بالذهاب للقائمين على دواليبه، بقوله: "داكو جاء الملاك يبغى عگبة گت لحمارته" يجد الرجل فرصة لقطف أكثر من حجم ربطة البرسيم المعتادة وحين يريد أن يرفعها لا يستطيع فيساعده أحد العاملين في الدولاب لوضعها على ظهر الحمارة وعندها تسمى "جنبيه" نظرًا لكبر حجمها، تتوزع أكلًا ليس لحمارتين وإنما تكفي لجميع دواب الحظيرة!
"الملاك" شخصية محترمة ومقدرة عند مستأجري الدواليب، كل يطلب رضاه، لا يحصل فقط على عدد "گلات التمر" المتفق عليها حسب حصاد العام، إنما يعطى ما جادت به الأرض من حشائش وخضار، وحصة من حليب وزبد ولبن، كرم عفوي من لدن نفوس الطيبة. وعلى ضفاف الركايا وتموجات الزروع وعند مساءات نسائم الصيف، يفد الملاك من علية القوم في قلعة القطيف الشامخة عقولًا وبناء ومالًا، شخصيات مرموقة مثل: الشماسي، السنان، ابن نصر الله، العوامي، أبو السعود، يجوبون الدواليب الخضراء بكامل هندامهم المميز "الصخمة والعمة" كالمشايخ، يتأملون المساحات الخضراء، ويدور الكلام بعين الرضا، يستريحون قبل مغيب الشمس عند الجازرة وعلى صوت حفيف أوراق أشجار البمبر يمضغون بضعة تمرات، ويتمطقون بشرب اللبن الرائب من البقرات السمان، ثم يأخذون مستحقاتهم من مواسم الرطب، گلات تمر تحمل على ظهور الحمير، قوافل خير خارجة من كل دولاب، تسير عبر الزرع وطين البحر قاطعة "خليج كيبوس". حين قص الحاج عبدالله علي العقيلي هذه التقسيمات المعمول بها زمن الدواليب لكل من المستأجرين والملاك، توجهت له مستفهمًا، هل الدواليب تحتوي على زراعة النخيل؟ لأنه أخبرني سابقًا بأنها مقتصرة فقط على زراعة الخضار والحشائش وبضعة نخلات قليلة تسمى "نشو" تكون نابتة عند الأطراف، فأجابني بالآتي: "الدواليب حايشة من كل شيء، فيها نخيل واجد، ما هو داير مغروسة، انزرعت لحالها، -كيف نبتت- أفلت أية طعامه وبعد مدة تگوم، مثل ما تگول هذا عصفور أو بلبول شال ارطبه من عذگ نخله وطار بها وظل ينگدها ينگدها، كل طبت الطعامة من بوزه على أرض الدولاب، أو حتى أنت إذا أكلت ارطبه أو تمرة أفلت طعامتها تگوم بعد، خاصة إذا هي مندفنة بعد اشوية"، قصده انغرست قليلًا في التربة. بلهفة رحت أسأله وكأني لا أعرف شيئًا عن طبيعة البذور، مستفهمًا عن مراحل النمو، وكيف لنواة التمر بعد حين تصبح نخلةوارفة الظلال، وبرغبة في التوصيف النابع من رجل خبر الأرض وعرف أبجديات الزرع حيث يقول: "هذي الطعامة فوگيها گشر لكن داخلها بشيمة بيضاء يسموه اللب،أول شيء تأكل من بشيمتها، تالي كل طلع ليها عرگ في الأرض، كل يبست البشيمة، إذا مر عليها الماي أو جاها المطر تتغدى من عرگها، بعدين يطلع ليها عرگ فاني وفالف ما تشوف إلا الأرض تشققت وطلعت ورگة خضره گاسية شوية، تكبر وتكبر وتصير فسيلة، تالي تصير نخلة نشو يسموها سلس، ومرات تصير نخلة عدلة يسموها خصبة، لون ثمرها شهلي أو أحمر، أو تطلع فحال لكن ما تطلع إخلاصة".
وأوضح شيئًا مهمًا عن كرم الطبيعة: "هالفسيلة إذا كبرت كل طلع تحتها بنات يشربوا من جذعها يطلعوا على أمهم -نفس النوع- يعني هي خصبة كلهم خصبة واللي ما هي خصبة يسموها اسلوس وبناتها نفس الشيء سلوس، وثمرهم ما هو داك الذوگ يعطوه للحياوين، راعي الدولاب يشيل البنات، يفرصخهم من أمهم، زمن الأول يظلوا، إن بغى منهم للغرس گبعهم وغرسهم في مكان فانٍ، أو يظلوا يكبروا يصيروا عكرة، حتى في الترويس إذا ركب واحد يروسهم، لأن الترويس فيه تسليچ مال السلة وگصاف گروف وتنبيت، يخلي كرب في هذي اللي ركب فيها، يركب من الخضر يسلچ هذه البنت بالأم، تالي يحول ويبطهم، يبط الكرب".
تعمدت أن أضع كلام الحاج عبدالله حرفيًا في بعض المواضع كما هو دون تدخل مني، فقط تساؤلات محددة وذلك من أجل الوقوف على شفافية المحاورة والاقتراب من توصيفه شخصيًا. ربما لا يفهم الكثير منا ماذا تعني هذه المصطلحات الفلاحية، إلا من كان قريبًا من عالم الزراعة، وأيضًا قصدت من وضع كلامه باللهجة الدارجة، للاقتراب بعض الشيء من كلام الأولين، برغبة لإحياء منطقهم شبه المندثر والذي بات تراثيًا فقد جرى عليه ما جرى بفعل تطور الحياة وإهمال وتضاؤل مساحة الزراعة.
ثمة توضيحات لبعض المصطلحات التي وردت على لسان الحاج عبدالله علي العقيلي: "الطعام أو الطعامة": نواة التمر.
"الخصبة والسلس": نوعان من أنواع النخيل، ويرتبط دائمًا اسم الثمر باسم النخلة نفسها.
الفسيلة: النخلة الصغيرة جدًا التي لم تعرف فصيلتها إلا إذا أثمرت.
"يفرصخهم ويگبعهم":بمعنى ينزعهم.
"عكرة" مجموعة فسايل تحيط بالأم من جميع الجهات وملتصقة فيها.
"الترويس": هو تنظيف النخلة، إزالة الليف القديم وقص كل ما هو يابس من كرب وعسق وسعف، أي تهيئة النخلة لموسم جديد وتشتمل على المراحل التالية:
"التسليچ": إزالة بعض الشوك من بداية الخضر وكل ما يعترض يد الفلاح.
"السلة": شوك النخلة، أو بداية الخضر، حاد وصلب قبل أن يتحول إلى وريقات خضراء ثم يتمدد ليصبح سعفًا.
"گصاف لگروف": فتح قلوب النخلة لتهيئتها لعملية التلقيح.
التنبيت:التلقيح، حيث يؤخذ السف من الفحال "ذكر النخل" ويضرب به طلع النخلة "الأنثى" يتناثر عليها مثل البودر على حبيبات طلعها، لتأتي بثمر قوامه القوة والصلابة والحلاوة.
"بطاط الكرب": شطف الكرب أو تجليس النخلة وهو إزالة الجزء الأكبر منه ليصبح بمثابة درج لأقدام الفلاح لتسهيل الصعود والنزول.
هذه المصطلحات المحلية لاتزال إلى اليوم متداولة في مزارع فريق الأطرش، ومن يجوب معامير الشمال سيسمع من وجوه الطيبة هذه اللهجة، التي تعود لزمن الدواليب وأبعد، حيث بساتين النخيل ضاربة جذورها منذ تفجرت "عين العودة" قبل عدة قرون.
إن الحشائش والخضار هما الركيزتان الأساسيتان لكل دولاب، لم يكن زرع النخل مقصودًا بحد ذاته، إنما الطير ألقى النواة من فمه واندست في التربة، جاءها الغيث، فارتوت وربت وأنبتت فسيلة ثم كبرت وأنجبت بنات يحيطونها من كل جانب، تتغذى وتسقيهم من نفسها كأنها كائن يدب على الأرض يدرك معنى الأمومة، يقوم الفلاح بفصلهم "الفسايل الصغار" عن أمهم ثم يقوم بغرسهم فرادى بشكل منتظم على طول محيط الدولاب، وأيضًا تتكاثر النخيل عبر يد ترمي النواة عرضًا تدحرجها الريح وتدوسها أرجل الثور أو الفلاح فتنغرز في جوف التربة، تعاركها الطبيعة وتسويها بذرة حية تنمو وتشق الأرض، تكبر وتصبح بعد سنين نخلة شامخة كثيرة الثمار.
ما أكرم الطبيعة وما أبهاها، مثلما تحب الأرض وتعتني بها، فهي تجود عليك بما لا تحتسب. في عقيدة الفلاح لكل نخلة مقامها، إن كانت النخلة خصبة أو غيرها ممن تماثلها في الجودة والعطاء، سوف تبقى سواء توسطت المستطيل الأخضر "الشرب" أو اعترضت مجرى الماء، هناك طرق لتغيير مسار "السمط"، بحفر عطفة تسمى "كتلة" أشبه بالكوع في السباكة، وذلك من أجل المحافظة على الفسيلة وبقائها محل منبتها، بل تدعم برص التربة على امتداد محيطها والذي يسمى "جابور"، هذا الأمر إذا كانت من النوع الجيد أكله، ما دون ذلك مثل السلسل يقلع وينقل لأطراف الدولاب.
من طريف ما قاله الحاج عبدالله العقيلي عن أجداده حين كانوا في عهد الصبا، عن فسيلة مجهولة لم تعرف بعد هويتها، يسرد مع تغير في نغمة صوته لتقارب رجل طاعن في السن أقرب للخنخنة مع مد صوت بعض الكلمات، ثمة تداخلات مني عرضيًا ليسترسل بعدها في التوضيح وإعادة التوصيف، يقول: "من بعض القصص، جد أبوي حجي عبدالله العقيلي، قايمة فسيلة، مثل ما تقول هذا السمط -يشرح بيده على الأرض- وقايمة هنية على الحافة أو في الوسطى اشوية، الأول جوع، قام أحد أولاده، ما أدري هو أبو رضي أو حجي مكي، قاموا وگلعوها وجدبوها وأكلوها، بعدهية كويريب، الحين مر أبوهم إلا هي مگلوعة صرخ عليهم (ها يا ملاعين الوالدين إحنا حاسبين بنسوي ليها كتلة)، -ما هي الكتلة يا أبوحسن؟ الكتلة، مثل ما تقول هي قايمة في السمط بيعوج السمط يعني بيكتله، بيگوم ليها جابور، لأجل تصير في وسطة الجابور، يعني بيحوطها بالتراب رفع مقدار شبرين أو فلافة حتى تستقوي الكتلة، يبغى يكتل السمط، تقعد على الجابور حتى تصير عدلة، هذا هو جاي السمط كل لفة عنها، يسوي ليها كتلة- طيب أبوحسن ومناك ديك الجهة ويشيه شرب؟- يا شرب يا جابور، وجنة له، لأن هذا السمط وهذي الوجنة، وجنة منه ووجنة منه وفي الوسطى السمط، والنص الفوهة حتى يدخل الماء منها، هي عفر قايمة وسط السمط أو على حافته، ويبغى يخليها يمكن تطلع خصبة عدلة أو فحال عدل، بعديه صغيرة، كويريب ما بان فمرها، هم مروا عليها شالوها وجذبوها، دندن برأسه ويقول، الله يغربلكم أحنا حاسبين بنسوي ليها كتلة"، مع جر كلمة "كتلة" طويلًا.
تظل أنفاس الحاج عبدالله العقيلي طويلة في سرد يوميات عوالم الدواليب. وهذا هو الحاج حسون محمد حسين آل سالم المتيم بحب الأرض وقد شارف على التسعين، لا يهدأ له بال ولا يهنأ له عيش إلا بالحركة في دولاب أبناء أخته حجي رضي وحجي مكي العقيلي، يطعم الحياوين بعناية وتؤدة، يحرث، يسقي، يشذب الأغصان، "يجز الگت" يحصد، يتصدى بعض المرات للعمل في الجازرة، غير معترف بأنه بلغ من العمر عتيًا، وهو العارف بأن الجازرة تريد همة الشباب "ما تبغى شومة اشويب ضعيف البدن"، ارتجوه أبناء أخته بالكف عن السقاية "لا تعب روحك يا الخال" يصمت عنهم وكأنه لا يسمعهم
جوابه العمل.
ترتبط الجازرة بقطعة تسمى "علگة" -بكسر العين- وهي حبل يتجاوز مترًا ونصف المتر معقودة من الأعلى بحبل الرشا وطرفها السفلي مربوط بالدلو، والهدف منها حتى لا يتضرر حبل الرشا بسبب تشبعه بماء الركية من كثرة الغطس في الماء، فـ"العلقة" هي وصلة حبل جاهزة للربط بين طرفيها تستبدل بقطعة جديدة في أية لحظة تتعرض فيها القديمة "للخرس" أي تلف في أنسجة الحبل.
ذات يوم حجي حسون بن سالم شمر عن ساعديه "يسگي" عند الجازرة وبين حمل ورفع الدلو تقطعت "العلگة" فارتمى منها الدلو، توقف تدفق الماء، ذهب الحجي بإحضار علگة جديدة منشورة على أغصان البمبرة، لكنه أخذ وقتًا أكثر من اللازم لتبديلها، عند ذلك نفذ صبر الشاب محمد بن حريسين "المسگي" عند الأشراب أي ضواحي الزرع أتى إلى الحاج حسون وهو متبرم: "يا أبو إبراهيم هذي ما صرت علگة اللي بتغيرها، عربكها چديه بسرعة، هذي ما يبغى ليها شيء"، وبينما هو يركبه بدلًا عنه رماه انتقادًا لحركته البطيئة: "فاگة على فاگة وأصبحت فاگة عروس، خيطنا سمن بعگب وأصبحت خوص بخوص".
رد عليه حسون بصوت عال: "امأمل أنا ما أفهم غزو الرجال، روح على شغلك الله يهديك، جاك الماي"، تناثر الضحك بعد أن عاد تدفق الماء، مزاحًا ومداعبات، هي نسمات عليلة تخفف عن المتعبين عناء العمل.
ديدن صاحب كل دولاب تواصل تدفق الماء من أجل نماء الزرع خوفًا من يباسه وبالأخص أيام الصيف حيث الحرارة قاتلة، يريد حسب مناداتهم، "دلو يسفگ دلو" أي دلو محمل بالماء يسكب سريعًا ويمتلئ أسرع دون توقف بمثابة سباق. بالمقابل ثمة رجال طاعنون في السن لا يريدون التوقف عن العمل، وممن يضرب بهم المثل حجي شلهوب المحدودب الظهر والذي يتوكأ على عكاز حين يمشي لكنه عند العمل يتحول إلى إنسان آخر منتصب القامة كأنه في عمر الشباب حيث "يضرب الصخين" أي يحرث الأرض وتقليبها، ويلتقط التمر المتساقط عند جذوع النخيل "يرقط" ويفتل الحبل، و"يجز الگت"، ولا يهتم بأي تعليق أو توصيف عابر، لأنه يرى حياته لا تستقيم إلا بالعمل وحتى لو قوس الظهر. يقولون له: "بسك يا أبو أحمد، واجد عليك من هالخدمة" يرد عليهم بابتسام مع تغير في نبرة صوته: "مانا مخلي للدود سهم" مع مط كلمة سهم، قصده إذا وافاه الأجل المحتوم وشيع إلى مثواه الأخير لن يحصل دود قبره على شيء يأكله، فجسمه خالٍ من أي لحم، فقط جلد على عظم.
عند الأولين العمر ليس ذي بال، يصلون إلى أرذل العمر، وهم متمسكون بالعمل، وبالمقابل من كان صغيرًا واشتد عوده فدرب الجازرة في انتظاره، صبية بالكاد خطت عوارضهم يتقدمون للعمل في رحاب الدواليب، عرف متبع يرن في الآذان، أي شخص بالغ عاقل قادر على العمل لا يقف مكتوف اليدين، يشمر ساعديه ويضرب على صدره "أنا رجال، أنا كفو"، يدخل في معمعة الشغل برغم المشقة والتعب، ثمة صور متباينة تحمل ذاك التحدي. تزخر الدواليب على امتداد مساحتها بالصبية المتطلعين للعمل، شبان في مقتبل العمر يسعون لتكوين حياتهم الشخصية، يجاهدون بكل طاقتهم في سبيل رضا النوخذة فلا يرفضون له طلبًا ولا يتقاعسون عن مهام الدولاب في أي وقت.
هذا صبي حاضر عند كل مناداة يقوم بالمهمات على أكمل وجه، من سقي وحرث وسقاية، يسارع بكل ما أوتي من قوة وشدة بأس، ليكون عند حسن ظن سيده، لا يقول له أف ولا يتوانى عن طبيعة أي عمل، السمع والطاعة حاضرتان وبحرص شديد، روح وثابة وبسعي أشد، خشية أن يستغنى عنه يومًا ما، ويؤتى بغيره ثم يقعد ملومًا حسيرًا!
غايته رضا سيده ليتمسك به وفي نفس الوقت يكون محبوبًا عنده وكذا بقية الأسرة.
صبي مرضي عنه ينادى عليه "عبود هاب ريح"، حيث يوميته تتدرج من نصف ربية إلى ربية وصولًا إلى ربيتين ومن كان ذا حظ عظيم يتحصل على ثلاث ربيات، أحيانًا يلازمه طفل يتيم يتحصل على آنة أو آنتين شابعًا بطنه، إحسانًا وجزاء شكورًا، رأفة بالضعفاء، لكن العبء الأكبر يقع على ظهر الصبي وسواعده الحاضرة، مستنفرًا للعمل من بزوغ الفجر إلى دلوك الشمس، موزعًا بين شؤون الدولاب وبيع المنتوج في السوق والذهاب للبحر "يباري الحضرة" يقضي يومه بين "الزعر" ورائحة روث البقر والدوران في الخب مع الثور، و"جز الگت" والسقاية والحرث. وعند اقتراب العيد أكرامًا له إذا أتى لمحسن بعد تحسونة نوخذاه "ورفاقه يأتي الدور عليه، ولا بأس من أخذ "دواء حمام" لتنظيف "عانته وإبطيه" ويأخذ نصيبه من "الچسوة" لبسة العيد، فهو محسوب عليهم كأنه أحد أفراد الأسرة حيث ينام في مجلس بيت سيده يطعم حتى الحياوين ويشعل الحطب ويغسل أواني الطبخ. وإذا رجع إلى أهله، فرحة أمه لا تسعها الدنيا تأخذه بالأحضان مع صوت الروبيات التي "تگرگش" في جيبه، ترن مع دقات القلوب، تنادي عليه بزفة مبكرة بين أخواته في حوش البيت "عبود جاب المكدة، عبود خطبوا له مرة".
يقال بأن الدنيا حظوظ والناس أصناف والأمزجة متقلبة والطباع ليست بواحدة وأصابع اليد ليست متساوية. أي حظ ناله ذاك الصبي اللاهث ركضًا بين ضواحي الزرع والرادح في خب الثور والناظر للدلو بين الركية والجابية، مستنزفًا في يوم كان عبوسًا قمطريرًا، وسط لهيب الشمس وحرارة الگيض، يئن من اشتداد العطش، لسانه كالخشبة اليابسه، يسبح في عرقه، يتنفس التعب أثر التعب محروم من برهة راحة لا يراد منه أن يتوقف صوت المنجور، كل لحظة يصيح الويل، راح ينشد مكابداته بصوته المجرور والمبحوح غبنًا: "الغوص شهبوب والجازرة مدة، شيبت رأسي الجازرة، الله يشيبها، حتى صلاة ربي ما أتمكن أصليها، مرة أصليها ومرة ما أصليها، ومرة أصليها على كارية من كواريها"، وبينما هو يتضور جوعًا ويتقلب وجعًا على وجع، راح يمني النفس بوجبة دسمة تنسيه كل معاناته، حتى جيء بالطعام المرتقب من لدن زوجة سيده، وضعت الغذاء ثم انصرفت لتدعه يأكل على راحته، ترك الجازرة وهو "يتنهم" وأقبل على الطعام كالملهوف، حين فتح غطاء القدر أغلقه حالًا، غذاء وأي غذاء، فهو لا يسد رمقًا ولا يسمن من جوع، حدث نفسه "هذا غذاء ولا فضيل سفرة"! بكى ودموع العين تنحدر بأسف على حظه المتعوس، فاختلطت مع عرقه، أخذ ينفث زفرات، وقف يشكو همه للجازرة التي أشعلت رأسه شيبًا: "جابت غذاي مرة نوخداي واستقليته، من حرة الروح لا أكلته ولا لي عين رديته، من حرة الروح قمت للفور وهديته"! فر الثور هاربًا يحوم بين الدواليب، صبي عاف كل شيء، سألوه: "ويش سويت يا صبينا؟" رد عليهم: "اسألوا حرفة إبليس هي اتعلمكم أنا ما عندي جواب، في أمان الله"! هل غاب عن ذهنية هذا "النوخذة" وأعوانه الرحمة بالضعفاء، صبي حملوا عليه فوق طاقته، لم يتركوا له فسحة راحة حتى نسي صلاة ربه، مستعبدًا طوال الوقت، وبعد أن طفح به الكيل، ترك كل شيء باحثًا عن نوخذة آخر يكون به رحيمًا، يقال "من سعى لقى" لم يلبث عشية وضحاها إلا وهو يسقي على إحدى الجوازر. غاب الإنصاف والتقدير عن هذا النوخذة، ومثل شخصه يتكرر في الزرع والبحر وعبر أزمنة مختلفة.
إن كانت الدواليب عمادها الجازرة فالصبيان هم المبكرون لتشغيلها يوقظون سيدهم بأعلى أصواتهم. مر زمن على دولاب "أم سنورة" بلا صبي، وصحابه ظن أنه في غنى عنهم، ذات يوم غالبه النوم برغم الجوازر تملأ المكان أنغامًا وصخبًا، تداخلت الأصوات مع حلمه وكأنه واقع يعايشه، رأى نفسه في المنام يسقي ويساقي زرعه، فجأة انتبه من نومه، فز تائهًا غير مصدق أن دولابه بلا ماء، ارتبك في نهوضه، جرى مسرعًا ولم يتمكن حتى من غسل وجهه، سمع تعليقًا من عابر: "إلا گاعد اليوم افيل"، أي جلس متأخرًا عن ميعاد السقاية، ازداد تشتتا، وادرك أن أغلب الدواليب ارتوت بفيض ماء الركايا وآخرها دولاب العقيلي جاره الشرقي، فراح ينشد بتهكم: "كل الجوازر سقت إلا أم سنورة، حتى لجويزرة سقت وصاح منجورة"!
يا صاح كم من أشجان وغناوي تعب ومواويل صبر حملتها الدواليب، تلكم قصص تفيض بالكفاح والأرق والسطو والقهر والعزم والبأس، مساحات خضراء على مد البصر، سرت الناظرين أزمانًا، وتهادى فيها الطير ألوانًا، وتعاقب على ازدهارها أجيالًا وأجيالًا، آوت المتيمين بحب العمل، صناع الفرح والأمل، الراقصون طربًا لجني الحصاد، فيض ثمار، فخر لأراضي الخصب، ارتوت بدمع العين والجهد والعرق.
من يبحث عن حدود تلك الدواليب، عن أسمائها، اتجاهاتها، دروبها، تقسيماتها، ناسها، أين ارتحلوا
من عمّروها ليل نهار؟ ما حال جغرافيتها اليوم؟ هل أصبحت نسيًا منسيًا، قليل جدًا تحولت لمعامير شاخصة في سوح مزارع فريق الأطرش الحالية، لكن الغالبية العظمى تحولت لصناديق خرسانية وشوارع إسفلتية!
يا أيها العود الأخضر من نحرك؟
ويا شجر من اقتلعك؟
ويا نخل من قطع جذورك؟
من قبر تلك الجنات والعيون؟
أبكي على قبور الراحلين
بين مقبرتين المصلى والدهر،
وبعصرة قلب: يا رب الحبوب والثمار ماذا فعلنا بنعمتك!
تحية بأريج الريحان: للأخ حسن (فيصل) عبدالله العقيلي وابن الخالة مهدي إبراهيم الصفار، وابن الخال محمد حسين هبوب، لتمثلاتهم الوصفية في طرق الري وهندسة ضواحي الزرع.








