يصيحُ العبد عاجزًا في كل مرةٍ يخطئ؛ أين أنت يا ربي لا تُريني الصواب، حبذا لو طائر في السماء كما ذاك الغراب الذي علم الأخ كيف يدفن أخاه، فلينبهني هنا قبل الخطيئة، لمَ لي نفس أمارة وللخطيئة عقوبة! أفأخلق ها هنا ثم أعذَّب! ماذا لو قدرت لي أن أكون مَلَكًا ذا عقلٍ محض لا مساحة للشهوات الميالة للهاوية، ثم أعيش الحياة وختامها الجنة بكل تأكيد! يعلو صوته؛ يا مالك الجنات ألا تأمر بنا للجنة جميعًا دون أن نعبر طريقها الوعر، بيدك القدرة قبل إقرار القدر لمَ نعذب ها هنا! يكاد يأكل بعضنا بعضًا ضاقت بنا الدنيا بظلمها!
تخفي الفطرة الجواب عن الإنسان في ذلك الوقت، فهذه دار اختبار ولكل مختبر ورقة فهل يأتي الأستاذ في كل مرة ويشيرُ لك على أخطائك وتصححها! هذه الدنيا دنيا تنافس، وتلك الجنة جنة مراتب إن نبه الله البشر جميعاً قبل أخطائهم فأين الفضائل ومراتبها التي وعد الله بها، أنت خلقٌ مكرّم عند الله، الملائكة التي يغريك قدرها هم بلا إرادة يفعلون ما يؤمرون، كرامٌ لا يعصون الله ما أمرهم لكنهم سجدوا لطينتك الخطاءة، وقف الجميع وقفة جدل مع الله حين خلقك حتى سجد لك من سجد وكفر من كفر، ألا تكون خلقًا عظيمًا عند الله.
ثم تراه يصعد أعلى قمة من كبريائه ويشهر كفرانه فتتساقط من رأسه كل قيمة سماوية وتتهشم كل الحدود الربانية يستديرُ بظهره عن ربِّهِ غضبان، ويسترضي غروره حين ينادي في الناس: أيها الناس العلم ينقض دينكم، والدهر ينقض الشرائع، فتهبُّ الرياح هوجاء تعصفُ بالناس، فمن يخجل بالأمس أن يجاهر بالحرام يشار اليوم إلى حريته الشخصية، ومن كان صابرًا بالأمس على بلائه يُصاح به: حياتك مرةً واحدة فخُض غمارها كما تشتهي سفنك واترك البحر رهوًا خلفك، انظر للأمم كيف استطاعوا النهوض حين عزلوا الدين عن حياتهم وعلمهم، انظر إلى أوطانك وبلادك يأكلها طاعون التعصب والجهل، ثم يُقلَّبُ الدين على أهله ويخلط الأعراف والجهل والمبادئ على بعضها، والأوطان على ساكنيها، ويموج الناس في بعضهم موجًا، وحين تسمعُ الجبال أن تلك الأمانة قد أنقضت ظهر الإنسان حين حملها، وها هو يشهر كفرانه، تقهقه عليه مستهزئة: استدر عن ربك ما شئت فما بكت عليك السماء ولا الأرض.
ويشيح بوجوههم من يحرسون دين الناس عن ذلك العبد الذي ما عرف عن ربه في سنيه الأولى إلا أنه إن أخطأ فإن الله سيعاقبه، في حينٍ كان له أن يعرف فقط أن الأطفال أحباب الله، فتبدأ أولى الصور الضبابية حول ربه، وتكون العقوبة قبل الرحمة كأول معرفة بينه وبين خالقه، ثم يكبر ويشدد الحراس القبضة حول شرائعه وحلاله وحرامه وصحة مذهبه ودينه وبطلان ما سواها، ويفني عمرًا وهو يحاول الاستقامة، خوفًا من ربه تارة، ورغبة في جزائه تارة، ولا يعرف أن الاستقامة حبًا وعرفانًا، حتى يستفيق مارد الفتنة في قلبه وتتقلب عليه ظواهر الدهر، ولكن تبقى سحابة الله تظلل الجميع، فلا يرسل غضبه على من هم لا دينيين، ولا رحمته على من هم متدينون.
ظل إبراهيم عليه السلام يبحث عن معبودٍ حق، فيحبه ويملأ قلبه تصديقًا به ثم بعد ذلك يأتمر لأمره وينتهي لنهيه حبًا لذلك المعبود الرحيم، لكننا لم نعد على ذلك الأمر، ليت كان لنا درس واحد في البحث عن الله في نفوسنا عندما كنا صغارًا، سيكون بحثًا ملتحمًا بالفطرة ضاربةً جذوره في القلوب الصغيرة، وحين نكبر لن تستطيع أن تميل به عواصف الدهر، يكاد الآباء والأمهات – إلا من رحم ربي – يضربون وجوههم وأدبارهم رعبًا وخوفًا على دين أبنائهم من مواكبة المدن والحضارات والتي ظلوا عليها عاكفين سنين من الأماني والآمال.
مرت عصور طاحنة من الحروب ما بين الأديان والعلماء خوفًا من العلم أن يشكك الناس في دينهم، فما كان النصر في الأخير إلا للعلم ولكنه أصبح عاريًا وحيدًا بلا دعامة ربانية، ركائز الأمم والفضائل حين يجتمع العلم والدين معًا، وهذا ما يقره الإسلام، كل ما في الأمر نظرةً ممن أحب أن يمسك على الناس دينهم أن ينظر في عقولهم وتواترها مع الزمن أولًا، فضيلة البحث عن فكرة وجود خالق لهذا الكون وفكرة الإله وعلل الشرائع قد تكون كفيلة أن يقبض الجيل القادم على دينه دون أن يقبض الجمر، أتمنى لو يطفأ الجمر في قلب كل من اشتبهت عليه صورة الرب، فلن يحارب نفسه حين يسكنها الله، بل سيخوض الحرب في وجهتها الصحيحة على جبهة واحدة فقط مع الشيطان.