نبضُ الحياة

محطاتٌ تقيسُ نبضَ الحياة وتبعث فينا الأملَ أنَّ العجلةَ تندفع نحو الأمام وأن اهراءاتَ القمحِ سوفَ يملؤها الحصاد، طفلٌ يولدُ صغيرًا لا يعرفُ معنى الابتسامةِ، غارقٌ في الخوفِ والبكاء، يكبر ولا تسمع إلا ضحكاته يلهو في كُلِّ شيء، تحملهُ على أكتافكَ يظن أنه امتطى جوادَ الحريةِ أو لامسَ السحاب، كل ساعةٍ هي مرح.

بناءٌ تضع أساسهُ ويأتي العاملُ يومًا بعد يومٍ تبدو عليه ملامحُ الكمال، لونٌ أزرقٌ هنا وأبيضَ هناك ولوحةٌ تزين ذا الجدار وساكنٌ يضيفُ إليه روحَ الحياةِ إلى الأبدِ جيلًا بعد جيل ومن قبلُ كان أرضًا لا شيءَ عليها، نواةٌ جانبَ الطريقِ على أرضٍ يابسة، يأتي المطرُ وتبتل النواةُ ثم ترى عودًا أخضرَ يصارعُ الريحَ لا يلبث أن يستقويَ عليها وتنمو أوراقهُ وتأتي الثمرة.

قل لي أليست هذه بدايةُ الحياةِ كلها! هذه الأشياءُ في رمزيتها الفردية تجعلنا نفكر أن الطفلَ نواةُ المجتمعِ والبشرية والبناء نواةُ الحضارةِ والازدهار والشجر بداية الاستمرارِ والبقاء، حين ترى مجتمعًا يكبر فيه الطفلُ سليمًا ويُبنى فيه البناءُ وتُزرعُ فيه الشجرة فاعلم أن عناصرهُ الإنسانية والحضارية اكتملت في البشرِ والحجرِ والبيئة.

ما يظهر من الطفلِ هو جذورُ المجتمع والبشرية ودليل سلامتها أو علتها، وما يظهر من بناءِ الحجرِ نتاجُ الفكرِ والعقلِ الذي يبعث على البناءِ وليس الهدم، وما يظهر من الزرعِ هو شكر الربِّ في الرمزِ الذي جمعَ الماءَ والأرضَ والطاقةَ التي هي مصدر الحياة ومنبع استمراريتها، أدواتٌ هي كانت لمن قبلنا، ورثناها ونعطيها من بعدنا.

نمشي على الأرضِ ونعلم أن تحتها أجيالًا من البشر لا نعرفهم ولكن نعرفُ أسرارهم في نجاحهم وفشلهم، أمانيهم وتطلعاتهم فيما تركوا من تنشئةِ طفلٍ وبناءِ حجرٍ ومن بيئةٍ وشجرٍ في كل ما تختزنه المفرداتُ من الدلالةِ المباشرة والرمزية.

ربما لم يمر على البشريةِ في كُلِّ الأرضِ زمنٌ قُتِلَ فيه الطفلُ وهُدِمَ فيه الحجرُ وقُطعَ فيه الشجرُ أكثرَ من سنواتنا القليلة، نحن هل نكون من تلك الأمة التي لعنت أختها التي سبقتها أم نكون أمةً يذكرها من بعدها ويقول: شكرًا لكم؟

في نواةِ الفردِ القوةُ على الرقي ولكن ليس في الجمعِ الفعل والهمة، الإنسانُ هو الزارعُ الذي يحطم الحدائقَ، وهو المربي الذي يقتل الأطفالَ، وهو الباني الذي يهدم الحضارةَ، ونحن كلنا ذاكَ الإنسان، نكسبُ في حياتنا أفعالًا متعديةً عابرةً للأجيالِ وأفعالًا ناقصةً لا يقتصر جمالها وقبحها علينا أو في زماننا.

نحن من يعطي لأنفسنا ولزماننَا بعدًا كاملًا بعد رحيلنا أو نختزلَ كُلَّ الحياةِ في أفعالٍ تحيل حدائقنا وحدائقَ من بعدنا إلى أكوامٍ من الشوك، نحن من نملأ الحياةَ دموعًا ونحن من نملؤها ضحكات، في كُلِّ أفعالنا لنا كل ما كسبنا وعلينا كل ما اكتسبنا.


error: المحتوي محمي